وقفات مع حديث الشفاعة العظمى (5) موقف موسى -عليه السلام-
كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) (متفق عليه). وفي روايةٍ في المسند: (فَإِنَّهُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى).
فيذهبون إلى موسى -عليه السلام- لعلَّ الفَرَجَ يكون على يديه؛ فيطلبون منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لبدء الحساب، ويذكرون له المؤهلات التي تؤهله لهذا المقام، فهو: "كليمُ الله"، كما قال -تعالى-: (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة، (بِرِسَالاتِي) التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق (وَبِكَلامِي) إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم، وعُرف بها من بين إخوانه من المرسلين، مع إثبات أنَّ الله -عز وجل- كلَّم نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- مرَّةً ليلة المعراج؛ إلا أنَّ هذا الوصف غلب على موسى -عليه السلام- لأنه تكرر كثيرًا.
ومع ذلك اعتذر لهم موسى -عليه السلام-، وذكر لهم الأسباب، فقال: (إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا)، وهو القبطي الذي كان في خِصام مع رجل من بني إسرائيل، وموسى -عليه السلام- من بني إسرائيل، والقبطي مِن أهل فرعون: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص: 15، 16)؛ فرأى موسى -عليه السلام- أنَّ هذا الأمر مِمَّا يحول بينه وبين الشفاعة للخلق، حيث قتل نفسًا لم يُؤمَر بقتلها، كما في رواية ابن حبان: (فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا).
ثم يقول لهم موسى -عليه السلام-: (نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي)، وفي روايةٍ: (لا يُهِمُّنِي اليَومَ إِلَّا نَفْسِي)، أي: يكفيني اليوم أن أنجوَ بنفسي؛ ولكنه مع ذلك دلَّهم على عيسى -عليه السلام-؛ فقال: (اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.