الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 18 أغسطس 2025 - 24 صفر 1447هـ

مكانة السَّلَف العلمية والتشريعية والحضارية

كتبه/ مصطفى حلمي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعندما خطَّ الإمام الشاطبي -رحمه الله- طريق التعلم جعله من مصدرين: أحدهما: المشافهة، والثاني: تحري كتب المتقدمين -أي: السلف الصالح- في كل علم عملي أو نظري، وحجته في ذلك أعمال المتقدمين في إصلاح دينهم ودنياهم، على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى. (ينظر: الموافقات للشاطبي -رحمه الله-).

وبرهن الإمام الشاطبي -رحمه الله- على أن سنة الصحابة يعمل بها بالأدلة الآتية:

أحدها: ثناء الله عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة؛ كقوله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)، وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143)، ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم على حال، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقًا.

الثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) (رواه أبو داود، والترمذي عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، وصححه الألباني).

الثالث: أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.

الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم (ينظر: الموافقات للشاطبي -رحمه الله-).

ونعود إلى وصف "لاووست" لنشأة الدولة الإسلامية بما يشبه المعجزة، ونرى أنه لم يتجاوز التعليل السليم؛ إذ يسجل التاريخ لأهل العصور الأولى إنجازات ضخمة سياسية واجتماعية وعلمية وأخلاقية بطريقة الطفرة وبشكل غير مسبوق، كما بين الدكتور جمال حمدان -رحمه الله-.

وسنتناول هذه الإنجازات كلًّا على حدة: فمن الناحية السياسية والتنظيم الاجتماعي يقول الدكتور جمال حمدان -رحمه الله-: "لا شك أن مما يدعو إلى الحيرة والتساؤل حقًّا أن تستطيع قوى الصحراء الطاردة -قاعدة أرضية شبه خاوية، وموارد طبيعية شحيحة، وإنتاج اقتصادي متواضع، وكثافة سكانية هزيلة شفافة- أن تقهر وتخضع قوى البر والبحر التقليدية العتيدة؛ فارس شرقًا وروما غربًا، ومدى زمني يحسب بالسنين أكثر مما يحسب بالعقود... معادلة صعبة!

ويكمن حل هذه المعادلة بـ"الحوافز" و"القوى الميتافيزيقية" -أي: الدينية؛ لأن المسلمين حينذاك أيقنوا أنهم حَمَلَة رسالة- فيستطرد ولا شك أن جذوة الحماس الديني المستقرة هي التي ألهبت خيال "المؤمنين" حتى تحوَّلت بهم إلى شعلة ملتهبة وتحولوا إلى مشعل مضيء" (ينظر: إستراتيجية الاستعمار والتحرير، جمال حمدان -رحمه الله-).

وعندما كبرت الدولة الإسلامية ظلت تحافظ على هذا المشعل المتلقَّى من السَّلف، فلم تتحول إلى "إمبراطورية استعمارية"، بل كانت "إمبراطورية تحريرية" بكل معنى الكلمة؛ لقد حررت الشعوب من ربقة الاستعمار الروماني أو الفارسي واضطهاده الوثني وابتزازه المادي، أحلت أخوة الدين بدل أخوة الأقاليم، وسواسية الناس كانت تترجم سياسيًّا إلى سواسية الولايات والمقاطعات. (ينظر: إستراتيجية الاستعمار والتحرير، جمال حمدان -رحمه الله-).

ومن الناحية العلمية: نرى أن التجربة الواقعية الناجحة التي نفذها المسلمون الأوائل في العصور الأولى أمدت المنهج السلفي برؤية كاشفة مستديمة على مدى العصور التالية كلما مرت بالأمة أزمات، وأصبحت هذه التجربة ماثلة أمام الأعين وحاضرة في الأذهان، وأمدت علماء المسلمين بمعين لا ينضب كمصدر للاجتهاد فيما يستجد من معضلات باستخدام منهج أصول الفقه، وتاريخ هذا المنهج نلتمسه في رأي أستاذنا الدكتور النشار -رحمه الله- في عصر الصحابة أنفسهم، ولدى الكثيرين من فقهائهم.

فابن عباس -رضي الله عنه- وضع فكرة الخاص والعام، وذكر عن بعض الصحابة الآخرين فكرة المفهوم، بل إن فكرة القياس -وهي غاية الأصولي- لم توضع في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي عصر صحابته -رضي الله عنهم- كقياس الأشباه بالنظائر والأمثال بالأمثال- فحسب، بل ووضع أيضًا في العصر الأول والعصر الثاني قواعد للقياس وشرائط للعلة. (ينظر: مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، علي سامي النشار -رحمه الله-).

وعندما وصل المنهج القياسي إلى الإمام الشافعي -رحمه الله-، قام بتحليله وعرضه في صورة منظمة بكتابه "الرسالة"، وأضاف إليه أبحاثًا كثيرة؛ أهمها: المباحث البيانية التي لم يكن الصدر الأول في حاجة إليها حين كان الكلام ملكة العرب، وتوسع في جميع المباحث الأصولية التي عرفت من قبل وأكمل بعضها، وأقام فروع المذهب على الأصول؛ مما أدى بالشيخ مصطفى عبد الرازق -رحمه الله- إلى جعله في الدراسات الإسلامية "مقابلًا لأرسطو في الدراسات اليونانية" (مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص: 69)، ولكن الدكتور النشار -رحمه الله- يدقق في هذا الوصف؛ لأن القياس الأصولي كمذهب منطقي متكامل يخالف جوهر منطق أرسطو، فإنه يتكون من مبحث في الحد لا يستند على فكرة الماهية، ومن مبحث في الاستدلالات يقوم على التجربة المؤدية إلى اليقين وهي عنصر لم يعرفه أرسطو.

وقال الأستاذ طارق البشري -حفظه الله-: "يكفي القول بأن الأهمية القصوى لتلك الفترة لا ترد من كونها مجرد "تجربة تاريخية"، ولكن ترد من قيمتها التشريعية الأصولية، وأن مقتضى النظرة الإيمانية أن ما نستخلصه من أصول من هذه الفترة إنما يتعلق بما يعتبر لدى المسلم نصوصًا وأحكامًا غير تاريخية، أي: أنها ذات صفة دوام، وتعلو على نطاق الزمان والمكان، شأنها شأن سوابق التشريع، قد تستخلص من واقعة، ولكنها تعلو من بعد على ملابسات الواقعة وتصير في وضع حاكم لكل ما يتلوه من وقائع، وأن ما يستخلص من هذه الفترة من أحكام الإسلام إنما يصير في وضع الحاكم للمجتمع وللجماعة ولتجارب التاريخ ولا يكون محكومًا بهؤلاء، وهذا معنى القول بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان وأنها ذات وضع إلهي" (ينظر: مقال بعنوان "إشكالية الشريعة الإسلامية والحداثة في المجتمع المعاصر"، منبر الشرق، العدد 30، من ذي القعدة سنة 1412هـ - يونيو سنة 1992م).