نصائح وضوابط إصلاحية (56)
كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
من فوائد المعايشة الدعوية والتربوية:
معرفة الخصائص النفسية للأفراد ومِن ثَمَّ تحديد أسلوب التعامل الأمثل:
طبائع الأفراد تختلف وتتباين، ولكل نفسٍ خصائصها المجبولة عليها، والمعايشة الحقيقية تتيح معرفة خصائص النفوس؛ فينبني على ذلك تحديد الأسلوب الأمثل في التعامل مع كلِّ شخصية، ولهذا شواهد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك:
- ما جاء عن عمرو بن تَغْلِبَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا، فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ)، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حُمْرَ النَّعَمِ. (رواه البخاري).
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- من مخالطته ومعايشته لأصحابه يعرف تفاوت طبائعهم، وخصائصهم النفسية؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ)، ويتعامل بناءً على ذلك، ويجبُر بذلك ما قد يكون في نفوس بعضهم بحكم بشريتهم؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ).
- وأيضًا ما جاء في قصة إسلام أبي سفيان -رضي الله عنه- في فتح مكة؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال العباس: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ: (نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ). فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا). قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهِ حَتَّى حَبَسْتَهُ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَحْبِسَهُ قَالَ: وَمَرَّتْ بِهِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا كُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. فَيَقُولُ: مَالِي وَلِسُلَيْمٍ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُرُّ الْقَبِيلَةُ قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ؟ حَتَّى تَعَدَّتِ الْقَبَائِلُ لَا تَمُرُّ قَبِيلَةٌ إِلَّا قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ. فَيَقُولُ: مَالِي وَلِبَنِي فُلَانٍ. حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْخَضْرَاءِ كَتِيبَةٌ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لَا يَرَى مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدَقَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! مَنْ هَؤُلَاءِ يَا عَبَّاسُ؟ قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ، وَاللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْغَدَاةَ عَظِيمًا. قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ. قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا، قُلْتُ: النَّجَاءُ إِلَى قَوْمِكَ. قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ، فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الدَّسَمَ الْأَحْمَسَ، فَبِئْسَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ. قَالَ: وَيْحَكُمْ، لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا: وَيْلَكَ وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ. قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ، وَإِلَى الْمَسْجِدِ. <أخرجه الطبراني، وتنظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3341)>.
فمعايشة العباس لأبي سفيان -رضي الله عنهما-، ومعرفته بأنه رجل يحب الفخر، جعلته يقترح على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يجعل له شيء؛ فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وقال: (مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ، فَهُوَ آمِنٌ)، ومعرفته -صلى الله عليه وسلم- بأبي سفيان، وإدراكه -صلى الله عليه وسلم- أنه ليس رجلًا عاديًّا من رجال قريش، لكنه كان من الرجال المعدودين الذين يُرى مكانهم ويُشار إليهم في قريش بالقوة والزعامة والرأي، جعلته -صلى الله عليه وسلم- يأمر العباس: (يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا)؛ ليرى أبو سفيان قوة المسلمين، وكان ما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.