الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 25 صفر 1447هـ

الوصايا النبوية (32) (الوصية بعدم تمني الموت من ضر أصابه) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) (متفق عليه)(1).

مجمل الوصية:

ينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصية عن أن يتمنى أحد الموت نتيجة إصابته بضر دنيوي؛ فإن كان لا بد فاعلًا، أي: إن ضاقت به الأحوال واشتدت النَّوَائِب حتى اضطرته أن يتمنى شيئًا تنفيسًا عن نفسه وابتغاء لفرج الله، فليقل: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي) أي: ارزقني الحياة إذا كان في سابق علمك أن الحياة تكون زيادة لي في الخير؛ من التَّزَوُّد من الأعمال الصَّالِحَة، والبر، ونحو ذلك، (وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي) أي: أمتني إذا كنت تعلم أن الوفاة فيها خير لي، وهذا نوع تفويض وتسليم للقضاء، فيترك الاختيار لله -سبحانه وتعالى-.

تمهيد:

البعض يصيبهم الشيطان بالقنوط والإحباط إذا نزلت بهم المحن والمصائب؛ لا سيما إذا تكررت واشتدت (أمراض شديدة بتوابعها - فقر شديد بتوابعه - مصائب بأنواعها في الولد والأهل - ظلم وقهر من الغير - صدمات نفسية في أصحاب أو قرابات - ... والقصص في ذلك لا يحصى) فيتمنى معها الموت طلبًا للراحة من هذه الهموم والكروب والآلام، فكانت هذه الوصية النبوية لينضبط بها حال المؤمن مع هذه الأحزان والآلام، بنهيه عن ذلك، وأمره بتفويض الاختيار إلى ربه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ...).

ولنا مع هذه الوصية العظيمة وقفات:

أولًا: حياة المؤمن خير له من موته:

- المؤمن كلما طال عمره في طاعة الله، زاد فضله وأجره في الآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الإِسْلَامِ؛ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال: (لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا) (رواه مسلم). وعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه-: أن رجلين قدما على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان إسلامهما جميعًا، وكان أحدهما أشد اجتهادًا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، قال طلحة: فرأيتُ فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي: ارجع؛ فإنه لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ اجْتِهَادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدَخَلَ هَذَا الْجَنَّةَ قَبْلَهُ. فَقَالَ: (أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟) قَالُوا: بَلَى. (وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ؟) قَالُوا: بَلَى. (وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ؟) قَالُوا: بَلَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

ثانيًا: تفويض الأمر إلى الله، مع إحسان الظن به -تعالى-:

- (فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي...) فالأمر كله بيده -سبحانه وتعالى- فأحسن الظن بربك؛ قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 107). وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ -تعالى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ) (رواه أحمد، وأصله في البخاري)، وقال -تعالى-: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات: 87).

- يعقوب -عليه السلام- بعد طول السنين ينتظر الروح والفرج، ويبعث أولاده بالأمل في الله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).

ثالثًا: متى يجوز تمني الموت؟

الأصل عدم جواز تمني الموت للوصية معنا إلا في بعض الأحوال:

أولها: خوف الفتنة في الدين: كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ، فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ) (رواه مسلم).

- وعن سعيد بن المسيب -رحمه الله- قال: "لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- مِنْ مِنًى، أَنَاخَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ كَوَّمَ كَوْمَةَ بَطْحَاءَ، ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهَا رِدَاءَهُ وَاسْتَلْقَى، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَبُرَتْ سِنِّي، وَضَعُفَتْ قُوَّتِي، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضِيعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ" (رواه مالك في الموطأ).

- ولما خافت مريم -عليها السلام- أن ترمى بالفاحشة قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (مريم: 23).

ثانيها: من اقترب أجله وكان في حالة من الطاعة والتقوى: قال -تعالى- حكاية عن يوسف -عليه السلام-: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101). وقال الله -تعالى- عن سليمان -عليه السلام-: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل: 19).

ثالثها: عند حضور أسباب الشهادة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) (رواه مسلم). وكذلك أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- وحبهم للموت في سبيل الله. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ) قال ذلك ثلاثًا. (متفق عليه).

خاتمة:

وصية عظيمة نافعة لمن فهمها وتدبرها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي).

فاللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سواء كان هذا الضر مما يتأذى منه ببدنه: كالآلام، والأمراض البدنية، أو كان ذلك مما تتأذى به النَّفْس: كالذي يصيبه الحزن الشديد، أو تنزل به مصيبة، أو يحصل له أمر يكرهه، كمن كان معظمًا وله مراتب ورتب، ثم بعد ذلك بين عشية وضحاها إذا هو يبعد عن كل شيء، فيحصل له شيء من الاكتئاب، والحزن، والجزع، ونحو ذلك، فيتمنى الموت على الحياة... وهكذا في كثيرٍ من الصور التي يجزع أصحابها.