كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
عن أبي أُمَامَة رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
مُجْمَلُ الْوَصِيَّةِ:
أوَّلُ ما فُرِضَ من العِباداتِ في مكة، وأوَّلُ ما نُبِّهَ عليه في المدينة؛ لما له من عَظِيمِ الأثَرِ في الإعْدادِ والتَّرْبِيَةِ: عن سعد بن هشام بن عامر، قال: قلت لأم المؤمنين عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "حَدِّثِينِي عن قِيامِ اللَّيْلِ"، قالت: ألستَ تَقْرَأُ: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (المزمل: 1)؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن أوَّلَ هذه السُّورةِ نَزَلَتْ، فقام أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انْتَفَخَتْ أقدامُهم، وحُبِسَ خاتِمَتُها في السَّماءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثم نَزَلَ آخرُها، فصار قِيامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ. (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وعن عبد الله بن سَلامٍ قال: لما قَدِمَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة انْجَفَلَ الناس إليه، وقيل: قَدِمَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجِئْتُ في الناس لأنْظُرَ إليه، فلما اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَفْتُ أن وَجْهَهُ ليس بوَجْهِ كَذَّابٍ، وكان أوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ به أن قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
من فَضَائِل أهل قيام الليل:
أهل القِيامِ شُرِّفُوا بذِكْرِهم في مُقَدِّمَة عِبادِ الرَّحْمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان: 63، 64).
أهل القِيامِ هم أهل شَفاعَةِ القُرْآنِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).
أهل القِيامِ هم أكْثَرُ الناس اسْتِحْقاقًا لإجابَةِ الدَّعَواتِ وتَفْرِيجِ الكُرُباتِ؛ لأنهم وافَقُوا للإجابَةِ أعْظَمَ الأوْقاتِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) (متفق عليه).
أهل القِيامِ هم أصْحابُ الشَّرَفِ والجَمالِ والقَبُولِ بين الناس: عن سهل بن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: جاء جبريل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).
وسُئِلَ الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ-: "ما بالُ المُتَهَجِّدِينَ باللَّيْلِ أحْسَنَ الناس وُجُوهًا؟" قال: "لأنهم خَلَوْا بالرَّحْمنِ جَلَّ وَعَزَّ، فألْبَسَهُمْ نُورًا من نُورِهِ".
أهل القِيامِ هم أكْثَرُ الناس تَأَهُّلًا لدُخُولِ الجِنانِ: قال -تَعَالَى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 15-18).
من قِيام النبي -صلى الله عليه وسلم-:
كان -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِد في قيام الليل اجْتِهادًا شَدِيدًا، مع ما له من المَكانَةِ عند رَبِّهِ، وضَمانِهِ الجَنَّةَ: عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أن نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَقُومُ من اللَّيْلِ حتى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، فقالت عائشة: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسول الله، وقد غَفَرَ اللهُ لك ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قال: (أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟) (متفق عليه).
بل كان لا يَدَعُهُ حَضَرًا ولا سَفَرًا، ولا صِحَّةً ولا مَرَضًا: عن عبد الله بن قيس، قال: قالت لي عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ كَسِلَ، صَلَّى قَاعِدًا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ، إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ" (متفق عليه).
من قيام السلف -رضي الله عنهم-:
أدْرَكُوا فَضْلَ القِيامِ بالأسْحارِ، فكانوا يَحْرِصُونَ عليه باسْتِمْرارٍ: قال معاوية بن خديج: قال لي عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَئِنْ نِمْتُ النَّهَارَ لَأُضَيِّعَنَّ الرَّعِيَّةَ، وَلَئِنْ نِمْتُ اللَّيْلَ لَأُضَيِّعَنَّ نَفْسِي، فَكَيْفَ بِالنَّوْمِ مَعَ هَذَيْنِ يَا مُعَاوِيَةُ؟" (الزهد لأحمد بن حنبل)، وعن عبد الله بن أبي مَلِيكَةَ قال: "صَحِبْتُ ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان إذا نَزَلَ قام شَطْرَ اللَّيْلِ" (حلية الأولياء)، وعن طارق بن شهاب قال: "أتيت سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قلت: لأنْظُرَنَّ كيف صَلاتُهُ؟ فكان يَنامُ من اللَّيْلِ ثُلُثَهُ" (المصدر السابق).
بل يحتفلون بالنصر والفتح بقيام الليل فتفتح قلوب العباد لهم: ففي قِصَّةِ إسْلامِ هند بنت عتبة صَبِيحَةَ فَتْحِ مكة، قالت: "فأتيت أبا سفيان، فقلت: إنما أريد أن أتَّبِعَ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقال: قد رأيتك تَكْرَهِينَ هذا الحَدِيثَ أمسِ. قالت: إني والله ما رأيت أن عُبِدَ الله حق عِبادَتِهِ في هذا المَسْجِدِ قبل اللَّيْلَةِ، والله إن باتوا إلا مُصَلِّينَ قِيامًا ورُكُوعًا وسُجُودًا" (حياة الصحابة).
لماذا ثَقُلَ علينا قيام الليل؟!
الأسْبابُ كَثِيرَةٌ، وهي تَتَضَمَّنُ أسْبابًا مادِّيَّةً، وأسْبابًا مَعْنَوِيَّةً، ولكن مُراعاةً لعدم الإطالَةِ وَقَفْنا على أبْرَزِها:
- كَثْرَةُ الذُّنُوبِ والمَعاصي: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الحافظ ابن حجر)، وقال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد، إني أبِيتُ مُعافًى، وأحِبُّ قِيامَ اللَّيْلِ، وأعِدُّ طَهُورِي، فما لي لا أقُومُ؟ فقال: ذُنُوبُكَ قَيَّدَتْكَ!".
- كَثْرَةُ السَّهَرِ بلا فائِدَة: عن أبي بَرْزَةَ -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) (متفق عليه)، وكان عمر -رضي الله عنه- يَضْرِبُ الناس بالدِّرَّةِ بعد العِشاءِ، ويقول: "أسْمَرٌ أوَّلَ اللَّيْلِ ونَوْمُ آخِرِهِ؟!" (رواه ابن أبي شيبة في مُصَنَّفِهِ).
- كَثْرَةُ الطَّعامِ قبل النوم: قال بعض الصالِحِينَ: "لا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَنْدَمُوا عند المَوْتِ كَثِيرًا".
أسباب معينة على قيام الليل:
وهي كذلك كثيرة؛ فمنها: أسْباب مادية وأسباب معنوية، ولكننا مُراعاة لعدم الإطالَة نقف على أبرزها:
- اسْتِحْضارُ فَضْلِ قِيام الليل وجَزاء ذلك عند الله: قال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 16، 17).
- النوم على نية القيام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
- مُجاهَدَةُ النَّفْسِ المَجْبُولَةِ على حُبِّ الراحَة وعدم الاسْتِسْلام: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، وقال ثابت البناني: "كابَدْتُ نَفْسِي على قِيامِ اللَّيْلِ عِشْرِينَ سَنَةً، وتَلَذَّذْتُ به عِشْرِينَ سَنَةً" (سير أعلام النبلاء للذهبي).
- اسْتِشْعارُ أن الله يَرى ويَسْمَعُ صَلاتَكَ بالليل ويُباهي بك ملائكته: قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الشعراء: 217-220)، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ، مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا: أَيَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
خاتمة:
في زمان الفتن والآلام تصبَّر بالقيام: قال محمد بن المُنْكَدِر -رحمه الله-: "ما بَقِيَ من لَذَّاتِ الدُّنْيا إلا ثَلاثٌ: قِيامُ اللَّيْلِ، ولِقاءُ الإخْوانِ، والصَّلاةُ في الجَماعَةِ" (إحياء علوم الدِّين للغزالي).
فاللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.