كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتُعَدُّ القاهرة العاصمة السياسية والاقتصادية والإدارية، ومقر الحكم لجمهورية مصر العربية لما يزيد عن ألف عام. وتقع القاهرة عند ملتقى نهر النيل بالدلتا، وتُعَدُّ القاهرة أكثر مدن مصر سكانًا، حيث تَجاوَزَ تعداد سكانها عشرة ملايين نسمة، أي: إن نسبة السكان فيها تُعادل 10% تقريبًا من إجمالي سكان مصر.
وتُعَدُّ القاهرة أكبر مدينة عربية من حيث تعداد السكان ومن حيث المساحة، والثانية في إفريقيا، والسابعة عشرة عالميًا. وتُعَدُّ القاهرة من أكثر المدن تنوعًا ثقافيًّا وحضاريًّا؛ حيث شهدت العديد من الحقب التاريخية التي تركت فيها العديد من المعالم والآثار المختلفة؛ فهي أشبه بمتحف كبير مفتوح، يضم الكثير من الآثار: الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والقبطية، والإسلامية، وبها أرقى صور من العمارة المتمثلة في القلاع والحصون والأسوار والمساجد والمدارس؛ بالإضافة إلى معالمها الحديثة.
وتُعَدُّ القاهرة مدينة ومحافظة في آن واحد، حيث تَحدُّ محافظة القليوبية القاهرة من الشمال، بينما تَحدُّها محافظة بني سويف من الجنوب، وتَحدُّها محافظة الجيزة من الغرب، وتبلغ مساحة مدينة القاهرة 308,512 كيلومترًا مربعًا، وتتكون محافظة القاهرة من أربع مناطق إدارية: شمال وجنوب وشرق وغرب، تضم 38 حيًّا.
وقد تسببت العوامل الجغرافية الطبيعية من نهر وتضاريس في أن يكون نمو وتطور القاهرة من جهة الشمال في معظم حقبها التاريخية؛ إذ إن موقع مدينة القاهرة القديم منذ تأسيس مدينة الفسطاط السابقة عليها جعلها محددة من جهة الشرق بتلال المقطم، مما يتعذر معه التمدد نحو الشرق، ومحددة من جهة الغرب بنهر النيل، فلا تتمدد غربًا إلا بمقدار ما سمح به مجرى نهر النيل من أرض؛ إذ إن مجرى النيل شهد بعض الانحراف منذ عهد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى الآن، يتمثل في المسافة الحالية بين جامع عمرو بن العاص الذي كان على شاطئ نهر النيل عند بنائه وبين موقعه الحالي من مجرى النهر، أي: نحو خمسمائة متر، بينما يمثل جنوب القاهرة شريطًا ضيقًا من الأرض ينحصر بين التلال ومجرى نهر النيل، فكان من الطبيعي أن يتمدد موقع القاهرة من القديم نحو الشمال حيث الظروف الملائمة، فالأرض شمالًا منبسطة، كما أن موجات القادمين للقاهرة أيضًا جاءت من جهة الشمال، فهي الجهة الأقرب إلى أصولهم التي جاءوا منها، والتي منها يتلقون إمداداتهم، كما إن الأخطار التي تعرضت لها القاهرة عبر تاريخها الطويل كان غالبها أيضًا من جهة الشمال.
ومن الناحية التاريخية مرَّ موقع مدينة القاهرة بمراحل عديدة من البناء والتطور عبر تاريخها الطويل؛ منها:
بناء مدينة الفسطاط:
كان الوجود الروماني العسكري في مصر يضم ثلاثة فيالق: فيلق في الإسكندرية، والتي كانت عاصمة مصر طوال فترة الحكم الروماني لوقوعها على البحر المتوسط، وقربها من روما حيث طرق الإمدادات، والفيلق الثاني في طيبة، والأخير في قلعة تُسمَّى (حصن بابليون)، فلم يكن في موقع الفسطاط قبل إنشائها أي مدن متكاملة قبلها، ولم يكن قبل عام 640 ميلادية إلا حصن بابليون كمقر حكم وقاعدة عسكرية للرومان قبل الفتح الإسلامي، ويمثل هذا الحصن جزءًا مهمًا من تاريخ مصر الروماني، ولا تزال أجزاء من قلعة بابليون قائمة ضمن حدود منطقة مصر القديمة، وتُعَدُّ من أقدم الأماكن في القاهرة. وقد بقي من آثار حصن بابليون أجزاء من الأسوار ومن أبراج بعض المداخل، وقد شيدت كنيسة معلقة فوق برج منها، وتقع كل هذه الأجزاء الآن داخل القاهرة.
وقد حاصر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حصن بابليون حين فتح مصر عام 641 م، وكانت مساحة الحصن نحو خمسة هكتارات (12.5 فدانًا)، وحول الحصن كانت هناك أرض فضاء زراعية، يسكنها أقباط ويهود.
ومع دخول مصر تحت إدارة الدولة الإسلامية واستقرار الجيش الإسلامي بها، كان لا بد من وجود مقر للإدارة والحكم، فكان بناء (الفسطاط)، مدينة الإسلام الأولى في مصر وفي إفريقيا، وعاصمة مصر الجديدة لقرون؛ بُنيت بحيث كان يقع موقع حصن بابليون في وسطها، وسُمِّيت بالفسطاط نسبة إلى الموضع الذي جعل فيه عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فسطاطه (خيمته) عند فتحه مصر، وذلك في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
ومع ازدهار التجارة فيها، ازدهرت هذه المدينة، وقد أُضيفت لها بعد ذلك ضاحيتان جديدتان هما: (العسكر) و(القطائع)، لكنهما لم تكتملا وزالتا بزوال مؤسسيهما، حيث كان الهدف من بناء هاتين الضاحيتين حماية المؤسسين لهما، فاستمدتا قوتهما من مؤسسيهما وزالتا بزوالهما.
وقد اختط عمرو بن العاص -رضي الله عنه- الفسطاط لجنوده ليستوطنوا بها، وبُني بها مسجد عمرو بن العاص الجامع، وهو أول مسجد بُني في مصر الإسلامية، وقد أُنشئ بالفسطاط ميناء نهري، كما تم شق فيها خليج أمير المؤمنين بعد ذلك.
وقد ساعد موقعها الجيد على بقاء قوتها، وساعد بناء الفسطاط على حدوث اختلاط وترابط ثقافي بين العرب المسلمين وبين المصريين، وازدهرت التجارة في المدينة وتوسعت مع الوقت.
وموقع الفسطاط حاليًا في منطقة مصر القديمة (حي مصر القديمة) جنوب القاهرة، وهو من أعرق الأحياء بالقاهرة الكبرى حاليًا، وبه العديد من الآثار القديمة، لكن يتعذر اليوم التعرف بدقة على موقع مدينة الفسطاط؛ لأن مجرى نهر النيل قد انتقل من موقعه السابق متجهًا جهة الغرب، وكانت الفسطاط على النهر في منطقة ضيقة يسهل منها العبور بين ضفتي النهر، بينما تكونت الأرض الواقعة حاليًا بين موقع الفسطاط ونهر النيل كنتيجة لانتقال مجرى النهر نحو الغرب قليلًا، وظلت الأرض التي انحسر عنها النهر رطبة تملؤها بحيرات ضحلة لا تصلح للسكن والعمران إلا بعد قرون من الترسب والصلابة، فتكونت منطقة (الأزبكية) كأرض صلبة في عهد الفاطميين، وظهرت منطقة (باب اللوق) في عهد الأيوبيين.
وقد ظلت الفسطاط المدينة الأولى في مصر إضافة إلى مدينتي: العسكر والقطائع بعدها اللَّتين لم تكتملا، حتى تم بناء مدينة القاهرة في عهد المعز لدين الله الفاطمي، والتي ظلت منافسة للفسطاط إلى أن خربت الفسطاط. وجاء خراب الفسطاط من خلال الشدة العظيمة التي قضت على بشر كثيرين في عهد المستنصر بالله الفاطمي، ثم بسبب حريق الفسطاط عام 1168م خلال وزارة شاور قرب نهاية دولة الفاطميين أثناء الصراع بين شاور وضرغام أثناء السنوات الأولى لحكم العاضد، آخر حكام الدولة الفاطمية في مصر (1160م - 1171م).
بناء مدينة العسكر:
المراد بالعسكر الجند. وقد أُسِّست مدينة العسكر عام 752م؛ أي: في القرن الثامن الميلادي الموافق للقرن الثاني الهجري، فكانت العاصمة الثانية لمصر بعد الفسطاط لأكثر من قرن من الزمان، بناها القائد صالح بن علي العباسي ، أول والٍ للعباسيين في مصر (133هـ - 750م)، ليقيم فيها جيشه، حيث كانت في البداية مقصورة على الجنود العباسيين، ولعل لهذا السبب أُطلق عليها الناس مدينة العسكر، واستمر الحال على ذلك حتى زمن والي مصر السري بن الحكم (201هـ - 816م)، الذي أذن للناس بالبناء بالقرب منها، فنمت المدينة وامتدت حتى اتصلت بالفسطاط وأصبحت جزءًا منها.
كانت مدينة العسكر تقع شمال مدينة الفسطاط، وهي حاليًا جزء من القاهرة القديمة (حي مصر القديمة)، وتحديدًا في المنطقة الواقعة بين حي المدابغ في القاهرة القديمة وجنوب حي السيدة زينب، وإن لم يتبق منها إلا معالم متفرقة.
بناء مدينة القطائع:
عندما تولى أحمد بن طولون حكم مصر واستقل بها عن الخلافة العباسية، فكانت أول دويلة تستقل عن الدولة العباسية، بنى ابن طولون مدينة القطائع عام 870م، واتخذها مقرًّا لحكمه، فكانت العاصمة الثالثة لمصر الإسلامية طوال عهد الدولة الطولونية. بُنيت مدينة القطائع شمال شرق مدينة العسكر، حيث يَحدُّها من الشرق جامع ابن طولون المبني على منحدرات جبل يشكر، وجنوب الجامع كانت دار الإمارة، ويَحدُّها من الشمال بركة الفيل، ويَحدُّها من الجنوب مشهد ضريح زين العابدين، وفي وسطها كان تل جبل يشكر، فكانت مدينة رائعة، بلغت مساحة أراضيها نحو 270 هكتارًا (نحو 667 فدانًا) مقسمة إلى قطع، قُسمت على جند ابن طولون، وسُمِّيت كل قطيعة منها على اسم ساكنيها من الجنود، من النوبة والسودان والروم وغيرهم، وفيها بُنيت مستشفى (بيمارستان)، وكان بها أسواق لتلبية احتياجات السكان، وبها ديوان للحكم، وتقسيم جغرافي للمهن، وبُنيت فيها قناة لتوصيل المياه بين بركة الحبش والقصر. وقد دُمِّرت مدينة القطائع على يد العباسيين بعد القضاء على الدولة الطولونية في مصر عام 905م، فلم يبقَ منها إلا جامع ابن طولون بمئذنته المميزة.
بناء مدينة القاهرة:
بعد سقوط الدولة الطولونية في مصر، وبعد ضعف الدولة الإخشيدية بوفاة مؤسسها كافور الإخشيدي عام 968م، طمعت الدولة الفاطمية في الاستيلاء على مصر، وذلك في عهد المعز لدين الله الفاطمي (953م - 975م)، وهو الحاكم الرابع للدولة الفاطمية.
والدولة الفاطمية حكمتها أسرة نَسَبت نفسها إلى فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- ابنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقيقتهم أنهم ينتمون إلى فرقة الإسماعيلية، إحدى فرق غلاة الشيعة الباطنية المارقة من الدِّين؛ بدأت حكمها من تونس بالمغرب العربي، ثم امتدت شرقًا لنشر معتقداتها الفاسدة، وقد أمر المعز لدين الله قائده جوهر الصقلي (928م - 992م) اليوناني الأصل بغزو مصر وكلفه ببناء مدينة متكاملة فيها ليحكم مصر منها. ولم يلاقِ الجيش الفاطمي عند دخوله لمصر سوى مقاومة ضعيفة من جانب الإخشيديين، وأقام جوهر الصقلي معسكرًا له في الجيزة، ثم عبر نهر النيل، واجتاز مدينة الفسطاط، ليستقر في شمالها، حيث بنى هناك مدينة (القاهرة) لتكون عاصمة مصر الجديدة، كما بنى بها الجامع الأزهر لنشر المذهب الشيعي في مصر. وقد سُمِّيت بالقاهرة نسبة إلى كوكب المريخ (القاهر) الذي ظهر في السماء وقت بناء المدينة. وقيل: سُمِّيت بهذا الاسم تفاؤلًا بأنها ستقهر من يعاديها. وتحتفل القاهرة بعيدها القومي في يوم 6 يوليو من كل عام، وهو اليوم الذي وضع فيه جوهر الصقلي حجر أساس المدينة عام 969م، وقد استغرق بناؤها ثلاث سنوات.
كان الهدف من بناء مدينة القاهرة الجديدة أن تكون مدينة طبقية محصنة يقطنها الحكام والأمراء الفاطميون دون غيرهم، وقد ازدادت قوة القاهرة بعد حريق الفسطاط المنافسة لها، وانفتاح القاهرة للتجار وللعامة، فتوسعت كثيرًا خاصة مع بداية القرن التاسع عشر، حيث ضمت كل مقومات الحياة الحضرية من مساكن ومدارس ومساجد وأسواق ومستشفيات عامة ومدافن موتى وميناء للتجارة والنقل.
وقد تناوب على مدينة القاهرة خلال العصور الوسطى عدة أنظمة حكم مختلفة، كلها منبثقة من بعضها البعض، حيث شهدت معها القاهرة تطورات كبيرة، منها:
بناء قلعة القاهرة في عهد الأيوبيين:
تعرضت مصر لهجمات الصليبيين إبان الدولة الفاطمية، وزال خطر الصليبيين مع بداية دولة الأيوبيين عام 1176م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر.
دخل صلاح الدين الأيوبي الكردي الأصل مصر لإنقاذها من خطر الصليبيين، بعد أن تعاون مع شاور وزير الحاكم الفاطمي العاضد ، وسرعان ما حاز صلاح الدين وزارة الدولة، فلما مات العاضد تولى صلاح الدين إدارة شؤون مصر، وذلك عام 1171م، واستمر حكم الأيوبيين لأقل من قرن من الزمان. وخلال عهد الأيوبيين بدأ التفكير في بناء قلعة محصنة على جبل المقطم، هي قلعة القاهرة (أو قلعة الجبل)، وذلك لحماية المدينة والدفاع عنها ضد هجمات الأعداء؛ لذا خلت من أي منشآت اقتصادية أو اجتماعية، وهي تُعَدُّ أحد المعالم التاريخية للقاهرة، ومن أعرق القلاع الحربية الإسلامية في القرون الميلادية الوسطى، وهي لا تشبه أي حصن تقليدي.
بدأ صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية بناء القلعة عام 1171م لتكون الرابط الذي يربط كبرى مدن (عواصم) مصر القاهرة والفسطاط، حيث أحاطهما بسور واحد، وجعلت القلعة لتكون بمثابة القلب النابض لهما، ولكن لم يشهد صلاح الدين اكتمال بناء القلعة، إذ اكتمل البناء في عهد السلطان الكامل؛ لذا كان هو أول من سكنها، وأول من اتخذها دارًا للملك ومقرًا لحكم مصر، واستمرت مقرًا للحكم من بعده حتى عهد الخديوي إسماعيل الذي نقل مقر حكم مصر إلى قصر عابدين.
وتضم قلعة القاهرة العديد من المعالم الأثرية الإسلامية، منها: جامع الناصر بن قلاوون، وجامع محمد علي باشا، ومسجد سليمان باشا الخادم، وبئر يوسف، وعدد من المتاحف.
وقد تضمن بناء القلعة إنشاء خندق من الجهتين الشرقية والشمالية للقلعة، وكان لها عدة بوابات، وما زال على أحد أبواب القلعة نقوش تعود إلى عام 1183م، كما حُفر (بئر يوسف) على عمق 90 مترًا في قلب الصخور للإمداد بالمياه، مما يمكنها من الصمود أمام أي حصار محتمل ولمدة طويلة.
وقد أقام صلاح الدين المدارس لتدريس المذاهب الإسلامية في الفسطاط، لكن لم تشهد إقبال الكثيرين من الرواد لمدة من الزمن؛ نظرًا لأن سكان الفسطاط قد هجروها بعد احتراقها واستقروا بالقاهرة. وشهدت القاهرة في تلك الفترة تحولًا من مدينة للحكام والأمراء ليسكنها العامة، وتهدمت القصور الضخمة، وتحولت إلى مساجد ومدارس، بينما تحولت القصور الصغيرة إلى منشآت للأغراض التجارية، فانتعشت ظروف القاهرة الاقتصادية، وتم إدخال نظام الوقف فيها بتخصيص ملكيات عقارية لدعم تقديم خدمات اجتماعية، حيث يقوم الأثرياء ببناء مجمع يخصص جزء من إيراداته للأنشطة الخيرية، فكانت إيرادات حي الصاغة في القاهرة تخدم المدرسة الناصرية، وكانت متاجر في منطقة باب النصر تقوم بدعم المدرسة السيوفية، وكما بُنيت مدارس للتعليم، وظهرت الخانقاه لاعتكاف الصوفية، وظهرت المؤسسات العامة كالمستشفيات العامة.
بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 1193م، اقتسم أبناؤه وأبناء إخوته الدولة. وانتهى عهد الأيوبيين بموت الملك الصالح نجم الدين أيوب زوج شجرة الدر -رحمها الله-، التي حكمت مصر من بعده، بعد أن أخفت خبر وفاته. فكانت فترة حكم شجرة الدر تلك نقطة تحول من حكم الأيوبيين إلى حكم المماليك.
توسع القاهرة في عهد المماليك:
امتدت دولة المماليك من عام 648هـ إلى عام 923هـ (من عام 1250م إلى عام 1517م)، أي: قرابة قرنين ونصف قرن، وخلفت الكثير من الآثار الدالة على تقدم فنون البناء والعمارة والزخرفة. وقد تحولت القاهرة في تلك الفترة إلى حاضرة الخلافة بعد سقوط بغداد؛ إذ كانت أهم وأكبر مدن العالم، ويرجع ذلك إلى قوة سلاطين المماليك وهيبتهم، وقدرتهم على المحافظة على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية إلى جانب ازدهار التجارة، حيث نجح المماليك في جذب تجارة شرق البحر المتوسط إلى القاهرة التي صارت مركزًا للنقل التجاري مع الاستفادة من التجارة بين الهند وأوروبا عن طريق البحر الأحمر.
وقد ظهر المماليك في مظهر منقذي العالم الإسلامي من الضياع والزوال بعد سقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية، ويقسم المؤرخون دولة المماليك إلى دولتين: دولة المماليك البحرية التي حكمت من عام 648هـ إلى عام 784هـ (1250م - 1382م)، وحكمها سلاطين من أصل قفجاقي تركي، ودولة المماليك البرجية التي حكمت من عام 784هـ إلى عام 923هـ (1382م - 1517م)، وحكمها سلاطين من أصل شركسي، واشتهر عن المماليك صدهم للهجمات المغولية والصليبية وتطورهم العمراني وازدهار التجارة في عهدهم.
تسلم المماليك مدينة القاهرة من الأيوبيين مدينة محصنة ليس لها توسعات كبيرة خارج نطاقها، سوى بعض الضواحي الجديدة كالأزبكية وبركة الفيل وبولاق. ومع التزايد السكاني المستمر، كانت تُبنى المباني الجديدة في العصر المملوكي من خلال هدم عقارات قديمة لإقامة مبانٍ جديدة مكانها؛ نظرًا لضيق الحيز الفضائي خاصة في الأماكن المأهولة بالسكان، وقد تميزت تلك الفترة من تاريخ القاهرة بالتفوق في البناء المعماري على طراز فني رفيع بقي شاهدًا على التقدم المعماري الإسلامي في ذلك العصر.
بدأت فترة المماليك بحكم المماليك البحرية في ظروف صعبة، حيث كان يهدد الصليبيون البلاد، ويهددها أيضًا زحف المغول، إلى أن تغلب الظاهر بيبرس على هذه الأخطار.
توسعت القاهرة في فترة حكم الظاهر بيبرس جهة الشمال، حيث تم تشييد مسجد الظاهر بيبرس في الحي الشمالي، وهو أول مسجد شُيد لإقامة صلاة الجمعة منذ مسجد الحاكم في عهد الفاطميين؛ كما أنشأ بيبرس على غرار أسلافه مدرسة بالقرب من الصالحية في شارع بيت القصرين، كما تحولت بعض الأراضي الزراعية إلى مناطق سكنية لبعض الأثرياء.
توالى حكم سلاطين المماليك سلطانًا بعد سلطان، فكان كل منهم يشيد مجموعته الخاصة التي تكون غالبًا عبارة عن مسجد ومدرسة وبيمارستان وحمام عام، ومنها مجمع السلطان قلاوون، كما كان الأثرياء ينافسون بعضهم بعضًا في إقامة الأعمال الخيرية ذات النفع العام، وفي مقدماتها تشييد المساجد وبناء الحمامات والأسبلة (جمع سبيل).
وقد شهدت القاهرة في تلك الفترة نموًّا سريعًا في المنشآت التجارية والحوانيت، وظهرت الخانات، وهي نوع من المباني المتعددة الطوابق، كانت لها أسماء مختلفة عبر الزمن كخان أو فندق أو وكالة، وكانت الوكالات طابقًا أرضيًّا يحوي المحال التجارية، وطابقًا علويًّا يُعَدُّ أماكن معيشة للتجار المتنقلين.
وقد شهدت القاهرة توسعات خارج سورها من جهة الشمال لمواجهة زيادة السكان. كما عرفت القاهرة الشكل التقليدي للمدن، حيث تم تخصيص أماكن للمهن والوظائف، وظهرت مسميات جديدة كالنحاسين والصاغة والخيامين وغيرهم من الوظائف التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. ويُعَدُّ شارع القصبة الشارع التجاري الأكثر كثافة في القاهرة، حيث كانت الأسواق تُصنَّف وفقًا للتخصصات في نوع معين من التجارة، مثل تجارة التوابل وتجارة الملابس وتجارة السلع الفاخرة.
ومع هزيمة المماليك في (مرج دابق) عام 1516م، ثم في (الريدانية) عام 1517م على يد العثمانيين بقيادة سليم الأول، دخلت مصر تحت الحكم العثماني.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.