أثر العربية في نهضة الأمة (4)
كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنسيجُ أُمَّتِنا العربيَّةِ لا يَقبلُ إلا أن تكونَ خُيوطُه من لُغتِنا العربية، التي تقوده إلى تحقيقِ عقيدةٍ جامعة، وإيمانٍ راسخ، ووحدةٍ في الفكر، ورؤيةٍ واضحةٍ في التطلع.
ومع ذلك فإننا نجد مَن هم مِن بني جلدتنا، ويتكلّمون بألسنتنا، لا يؤمنون بها، ويتربصون لها، وإن يهلكون إلا أنفُسَهم، وما يشعرون!
فنقول بصوتٍ مسموعٍ -بلا مُداهَنةٍ أو مُوارَبةٍ-: لا نجاةَ إلا لِمَن يعتقدون أنّ لُغتَهم هي المَمَرُّ الآمنُ الوحيدُ لِتوحيدِ الأُمَّةِ العربية، فيعملون على إحيائِها، والدِّفاعِ عن حُصونِها.
هذا مع الاعترافِ بأنّه ينبغي علينا أن ننتقلَ باللغة من كهفِها الأدبيِّ الضَّيِّق، إلى نور العلم وسعة الفكر والمعرفة، حتى لا تكون بمعزلٍ عن ثقافات العالم، بل تُبوِّئ أُمَّتَنا مكانَها الطبيعي، بأن تكونَ مُصدِّرةً للحضارة، مُساهِمةً في تقدم العلوم ونشرها في أنحاء المعمورة.
وليس هذا غريبًا على لُغةٍ امتد تأثيرُها إلى المساهمة في تأصيل العِلْمِ الغربيِّ الحديث، وهذا بشَهادةِ أهلِها أنفُسِهم.
قال الدكتور راسيل، الأستاذ بمعهد ويلكوم لتاريخ الطب في لندن: "وكانت العربيَّةُ هي أداةَ هذا النَّشاطِ العِلْميِّ كُلِّه، فلمّا كانت اللُّغةُ العربيَّةُ لُغةَ القُرآنِ أصبح لها أهمِّيَّةٌ خاصَّةٌ في الإسلام، بَيْدَ أنّ طبيعةَ اللُّغةِ العربيَّةِ نفسها هي التي قامت بالدَّور الحاسم، فمُرونتُها الرَّائعةُ قد مكَّنت المُترجِمين مِن دمغِ مفرداتٍ مُحكمةٍ دقيقةٍ لِلمُصطلحاتِ العِلْميَّةِ والتكنولوجيَّةِ أو ابتكارِها، وهكذا اتُّخِذَتْ لُغةُ الشِّعرِ اللُّغةَ العالميَّةَ لِلعِلْمِ والحضارة" (انتهى).
أمّا عن واقع أُمَّتِنا في تفاعلها مع لغتها فهو واقعٌ مُرٌّ، شكته اللُّغةُ العربيَّةُ منذ أكثر من مئة وعشرين سنة، في قصيدة حافظ إبراهيم المشهورة: "اللُّغةُ العربيَّةُ تَنْعَى حظَّها بين أهلِها"، التي نشرها عام 1903م، إذ قالت العربية:
أرى كُلَّ يومٍ بالجرائدِ مَزلقًا | | مِن القبر يُدنِيني بغيرِ أناةِ |
وأسمعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً | | فأعلمُ أنّ الصَّائحين نُعاتي |
أيَهجرُني قومي عفا اللهُ عَنْهُمُ | | إلى لُغةٍ لَم تتصل برُواةِ؟ |
سرَت لَوثةُ الإفرنجِ فيها كما سرَى | | لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ |
فجاءت كثوبٍ ضَمَّ سبعينَ رُقعةً | | مُشكَّلةَ الألوانِ مُختَلِفاتِ |
فشكَت العربيَّةُ لُغةَ الجرائدِ لما أصابها من كثرةِ المَزالق، بعد ما سرَت فيها لَوثةُ الإفرنجِ، فصارت كالثَّوبِ الذي به سبعونَ رُقعةً مختلفة في لونها وشكلها.
فإذا كان هذا في زمانِ حافظ؛ فكيف الحالُ في زمانِنا الآن، الذي نَتجرَّعُ فيه مَرارةَ إهمالِ لُغتِنا الجميلة؟!
واللهُ المُستَعان.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.