الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 04 أغسطس 2025 - 10 صفر 1447هـ

الابتلاء ورفع الدرجات وتكفير السيئات

كتبه/ حسن حسونة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الرَّجُلَ لِتَكُونَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ فَلَا يَزَالُ اللَّهُ ‌يَبْتَلِيهِ ‌بِمَا ‌يَكْرَهُ ‌حَتَّى ‌يُبَلِّغَهُ ‌إِيَّاهَا) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).

ففي هذا الحديث بيانٌ لحكمة من حكم الابتلاء؛ وهو رفعة درجة العبد عند الله، ولولاه ما ارتفع إلى هذه المنزلة والدرجة، ولا شك أن هذا من فضل الله ومنَّته على العبد؛ فالابتلاء واقعٌ وحاصلٌ لكلِّ أحدٍ؛ الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المؤمن والكافر؛ فالكلُّ له نصيبٌ من هذا الابتلاء، قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ? وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).

وعلى حسب موقع هذا الابتلاء من العبد؛ فالبعض قد يُبتلى في نفسه بمرضٍ أو نحوه، حينها يَتَذَكَّرُ نبيَّ الله أيوب -عليه السلام-؛ الذي مَرِضَ مرضًا شديدًا فتخلَّى عنه الجميع عدا زوجته، ورفع شكواه إلى مولاه؛ فَعَافَاهُ الله.

وقد يُبتلى في ولده بعقوقٍ وشرودٍ عن الحق وعن المنهج القويم بعد ما قَدَّمَ له والداه سبل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكنه شَرَدَ ورفض، فله أُسوةٌ في نوح -عليه السلام- الذي دعا ابنه إلى برِّ النجاة والركوب مع الثلة المؤمنة في السفينة؛ لكنه رفض وأبى إلا أن يكون مع الكافرين!

وقد يُبتلى في زوجته أو ماله أو غير ذلك؛ فله الأسوة في نوح ولوط -عليهما السلام-.

وقد يُبتلى في دعوته وتبليغ رسالته إلى الناس، وتبليغ الحق للخلق، فقد يُضَيَّقُ عليه، وقد يُسَبُّ ويُشْتَمُ ويُهَانُ ويُسْتَهْزَأُ به، وأحيانًا يُسْجَنُ، إلى غير ذلك من أنواع البلايا؛ فله في قصص الأنبياء في القرآن الكريم، من أول نبيٍّ نوحٍ -عليه السلام- إلى خاتمهم نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فما جرى لهم وحُكي عنهم تسليةٌ لكل مُبتلى في طريق الدعوة إلى الله.

ولكن ينبغي على كل مُبتلى أن يعلم:

أولًا: إن أَزِمَّة الأمور كلها بيد الله -عزَّ وجلَّ-، وأنه لا مُعَقِّبَ لحكمه ولا رَادَّ لقضائه، وما أراده واقعٌ لا محالة، فلا يجري شيءٌ في الكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا يتحرك ساكنٌ، ولا يَسْكُنُ متحركٌ إلا بأمره.

ثانيًا: لا يكون شيءٌ إلا بحكمةٍ من الله؛ فلا يوجد شيءٌ عبثًا ولا سَفَهًا.

ثالثًا: يبتليك الله ليرفع درجتك، ويَحُطَّ عنك من خطاياك، وهذا في القرآن والسنة كثيرٌ جدًّا.

رابعًا: يُوقِنُ المُبتلى أنه ليس وحده المُبتلى؛ بل الابتلاء سنةٌ كونيةٌ ماضيةٌ في الخلق، (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

خامسًا: لا بد من التحلي بالصبر والرضا بقضاء الله وقدره؛ فلا يحصل الأجر بالتشكي، ولا بالضجر، إنما يحصل بالصبر والرضا، (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).

سادسًا: الدعاء واللجوء إلى الله؛ فهو العاصم من البلاء، والقادر على رفعه، أما غيره فلا يقدر على رفعه ولا تحويله؛ قال الله -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا) (الإسراء: 56)، فمَن احتمى بحماه نجاه، ومَن لاذ بجنابه عافاه.

سابعًا: يعلم المُبتلى أن الدنيا لا تُساوي عند الله جناح بعوضة، ولو ساوت لما سَقَى منها الكافر شربة ماء؛ فلا يحزن على ما فَاتَهُ ولا يفرح بما آتاه، لأنَّ متاعها غرور، وهي إلى انقطاع وزوال.

ثامنًا -وأخيرًا-: قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن علاج الابتلاء: أن يعلم أن الذي ابتلاه به أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه -سبحانه- لم يرسل إليه البلاء ليُهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما تفقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه مكسور القلب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه" (زاد المعاد).

أسأل الله أن يعافي كل مُبتلى، وأن يرزقنا شكره على آلائه.