الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 04 أغسطس 2025 - 10 صفر 1447هـ

الفَرَحُ ما له وما عليه (2)

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يقتدون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الفرح بما يحصل لهم من الهدى والحق والخير؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله. قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) (متفق عليه). قال أنس: فما فَرِحْنَا بشيءٍ فَرِحْنَا بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

وأعظمُ فرحةٍ فرحةُ أهل المدينة عندما جاء إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا؛ فجعل الغلمان والإماء والخدم يقولون في الطرقات: "جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جاء محمد -صلى الله عليه وسلم-" (رواه ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني).

ومَرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض المدينة؛ فإذا هو بجوارٍ -بنات صغيرات- بأيديهن الدف، يضربن ويُنْشِدْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارٍ. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَأُحِبُّكُنَّ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وهكذا ينبغي أن يكون فرح المؤمنين في كل زمان ومكان؛ فرحٌ بالإسلام والإيمان والإحسان، وفرحٌ بالتوفيق للطاعات، وفرحٌ بمواسم الخيرات والبركات التي هي نفحةٌ من رحمات الرحمن -سبحانه وتعالى-، فتُقْبِلُ نفسه عليه مُستبشرًا، يُرِي ربه فيها خيرًا.

وفرح المؤمن بعمله الصالح لا ينافي إخلاصه، قال الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)؛ أي: إذا حصل الهدى والإيمان والعمل الصالح، وحلَّت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح؛ لذلك أمر الله -تعالى- بالفرح به.

وكذلك إذا أَثْنَى الناس على عمله الصالح فَفَرِحَ؛ فهذا من عاجل بشرى المؤمن، فقد قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟) قال: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) (رواه مسلم).

والمؤمن تَسُرُّهُ حسنته ويَفْرَحُ بها، وتَسُوؤُهُ سيئته وتُحْزِنُهُ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ أي: المؤمن الكامل.

وكذلك يَفْرَحُ المؤمن إذا تَجَدَّدَتْ له نعمةٌ؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا تَجَدَّدَتْ له نعمةٌ سَجَدَ شكرًا لله -تعالى-.

قال أبو قلابة -رحمه الله-: "لا تَضُرُّكُمْ دُنْيَا إِذَا شَكَرْتُمُوهَا لِلَّهِ"؛ فيَشْكُرُ ربه على نعمه بقلبه اعترافًا أنها من الله وحده، وبلسانه بالحمد، والتحدُّث بها أنها من الله -تعالى-، وبجوارحه باستعمالها في طاعة الله -تعالى- وشكره.

وكذلك يَفْرَحُ بالمباح والطيبات التي أحلَّها الله -تعالى-، ويَشْكُرُهُ عليها، وبنيته الطيبة يُؤْجَرُ عليها، ولا بأس أن يُعَبِّرَ عن ذلك بمباح من غناءٍ لا يصاحبه موسيقى إلا الدف للنساء.

فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أَنْكَحَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَهْدَيْتُمُ الْفَتَاةَ؟)، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَرْسَلْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّي؟ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ، فَلَوْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يَقُولُ: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَا فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

وكذلك يَفْرَحُ لفرح أخيه، ويَحْزَنُ لحزنه، وهذا مقتضى الأخوة والمودة الإيمانية، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (‌لَا ‌يُؤْمِنُ ‌أَحَدُكُمْ ‌حَتَّى ‌يُحِبَّ ‌لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).

وقال -تعالى- عن المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) (النساء: 73)؛ أي: كأنه ليس من دينكم، ولم تكن بينكم وبينه محبة وصحبة.

هذا هو فرح المؤمن؛ فرحٌ بتوفيق الله له للإسلام والإيمان والإحسان، وفرحٌ بكل طاعة وعبادة، وكل نعمة دينية ودنيوية.

قال أحد السلف: "المؤمن يَفْرَحُ بمولاه والغافل يَفْرَحُ بلهوه وهواه!".

والحمد لله رب العالمين.