الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 04 أغسطس 2025 - 10 صفر 1447هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (222) بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم البيت وتأذينه في الناس بالحج (5)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله -تعالى-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ): "وبالجملة فهذا العشر قد قيل: إنه أفضل أيام السَّنة كما نطق به الحديث، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل: ذلك (قلتُ: أي: العشر الأواخر من رمضان) أفضل؛ لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي هذا أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم. (قلتُ: رجَّح ابن القيم هذا الجمع الأخير).

قول ثان في الأيام المعلومات: قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر، وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. (قلتُ: هذا القول هو أصح الأقوال؛ لأن الله جعل هذه الأيام المعلومات في ذكر اسم الله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، وهي: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأما مَن جعلها العشر؛ فكيف يصح ذلك في هذه الآية، مع أن الذبح لا يكون في الأيام العشر وإنما يكون في يوم النحر وثلاثة أيام بعده؟!).

قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: بسنده عن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر. هذا إسناد صحيح إليه، وقال السدي: وهو مذهب الإمام مالك بن أنس، ويعضد هذا القول والذي قبله، قوله -تعالى-: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) يعني به: ذكر الله عند ذبحها. (قلتُ: هذا القول هو نفس الذي قبله؛ إلا أنه زاد عليه الجمع بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات، وذلك أن الأيام المعدودات هي أيام رمي الجمار مع كونها أيام ذبح أيضًا؛ ولذا قال ابن عمر: الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والصحيح: ثلاثة أيام بعده. والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، فلم يدخل فيها يوم النحر؛ لأن المقصود بالمعدودات: أيام مِنَى، ويوم النحر رغم وجود رمي الجمار فيه؛ إلا أنه لا يُحسَب في التعجل والتأخر. والله أعلى وأعلم).

 قول رابع: إنها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم، عن أبيه أنه قال: المعلومات: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق. (قلتُ: يعكِّر على هذا القول: أن يوم عرفة ليس يُذبح فيه الهدي، وإنما الذبح في يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وكذا مذهب أبي حنيفة لم يجعل يوم الثاني عشر والثالث عشر من الأيام المعلومات، وهي أيام ذبح).

وقوله: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) يعني: الإبل والبقر والغنم، كما فصَّلها -تعالى- في سورة الأنعام: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 143-144).

وقوله -تعالى-: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) استدل بهذه الآية مَن ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي، وهو قول غريب، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب، كما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما نحر هديه؛ أَمَر من كل بدنة ببضعة فتطبخ، فأكل من لحمها، وحسا من مرقها.

وقال عبد الله بن وهب: قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته؛ لأن الله يقول: (فَكُلُوا مِنْهَا)، قال ابن وهب: وسألت الليث، فقال لي مثل ذلك.

وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم: (فَكُلُوا مِنْهَا) قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين، فمَن شاء أكل، ومن شاء لم يأكل. وروي عن مجاهد، وعطاء نحو ذلك.

قال هشيم، عن حصين، عن مجاهد في قوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) هي كقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) (المائدة: 2)، وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (الجمعة: 10).

وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره. (قلتُ: الراجح الاستحباب لتكلُّف النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تؤخذ قطعة من كلِّ ناقة من المائة التي ذبحها وأشرك معه فيها عليًّا، وكلاهما أكل من لحمها وشرب من مرقها؛ ليحصل الأجر من جميعها، وهذا لا شك أقل أحواله الاستحباب).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.