كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد نفض أهلُ الإسلامِ في ألبانيا أيديَهم مِن أحمد زوغو كما نفض أهلُ الإسلامِ في تركيا أيديَهم مِن مصطفى كمال أتاتورك بعد ما امتدَّت يدُه إلى الخلافة الإسلامية فقضى عليها مثلما قضى على السُّلْطة العثمانية عام 1924م.
وبكى الكثيرون الخلافةَ وقتها، ومنهم أحمد شوقي، الذي قال في مَرْثِيَتِه:
عادت أغاني العُرس رجع نُواح | | ونُعيتِ بين مَعالِمِ الأفراحِ |
كُفِّنتِ في لَيلِ الزِّفافِ بِثَوبِهِ | | وَدُفِنتِ عند تَبَلُّجِ الإصباحِ |
شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ | | في كُلِّ ناحِيَةٍ وسَكرَةِ صاحِ |
ضَجَّت عليكِ مَآذِنٌ ومَنابِرٌ | | وبَكَت عليك مَمالِكٌ ونَواحِ |
الهِندُ والِهَةٌ ومِصرُ حَزينَةٌ | | تَبكي عليكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ |
والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارِسٌ | | أَمَحا مِن الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ؟ |
وكان والد الإمام الألباني الحاج نوح نجاتي قد تخرَّج في المعاهد الشرعية في العاصمة العثمانية الآستانة، فسادت الأجواءُ العِلْميَّةُ بين أفراد الأسرة، مع قِلَّةِ ذاتِ اليد، وصار الحاج نوح مِن كبار أهل العلم بالمذهب الحنفي في بلدته، فجعلوه إمامًا لهم، يُعلِّمُهم ويُفتِيهم.
فنمَت براعمُ الألباني في روضةٍ مِن رياض البحثِ والعِلْم، ونشأ في صومعةٍ مِن صوامعِ الفكر والتَّمذهُب.
ولمّا نهض العُلماءُ لِمُواجَهةِ هذا المَدِّ التَّغريبيِّ اضطهدهم زوغو، وزاد في التَّضييقِ عليهم، حتى إنَّه فرض أن يكونَ الأذانُ باللُّغةِ الألبانيَّة! فزاد ضِغْثًا على إبّاَلة -(معنى المثل: بليَّة على أخرى. والإبّالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس)-، فاضْطُرَّ عددٌ مِن العُلماءِ والمُواطِنينَ إلى مُغادَرةِ ألبانيا، ومنهم الحاج نوح نجاتي والد الإمام الألباني، فكان قرار الهجرة من ألبانيا بالنسبة للحاج نوح هو الفيصل الحاسم، والعلاج الذي لا هَوَادةَ فيه، ولا بُقْيَا معه.
أمّا عن البلد التي قرَّر الهجرةَ إليها فكانت بلاد الشّام، وهذا لِسببَين:
الأوَّل: أنَّهم كانوا يَحُجُّونَ بالبغال من إشقودرة إلى تيرانا، ومنها إلى البوسنة، ومنها إلى بلغاريا، ومنها إلى إسطنبول، ومن إسطنبول يركبون القطار الحجازي الذي عُمل في أوائل القرن التّاسع عشر بتوجيهٍ من السُّلْطان عبد الحميد الثّاني -رحمه الله-، تحت إشراف المهندس الألماني هاينريش مايسنر، وكان يربط بين دمشق والمدينة المُنوَّرة، وقد ساهم هذا المشروع الإستراتيجيّ في نهضةٍ اقتصاديَّةٍ في مدن الحجاز، وسهَّل على الحُجَّاجِ مسافةً كانت تستغرق ثلاثةَ أشهر.
فكان الحاج نوح يَمُرُّ على بلادٍ كثيرةٍ في أثناء رحلة الحَجّ، منها بلاد الشّام، فأعجبه مُنَاخُهَا الجَويّ، ورأى أنَّه أفضلُ مِن مُنَاخِ مكّةَ والمدينة.
الثّاني -وهو السَّببُ الأَهَمُّ-: فضلُ بلادِ الشّامِ في القُرآنِ والسُّنَّة: قال -تعالى-: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: ?)، ويَدخُلُ في (حوله) بلادُ الشّام.
قال الطَّبَريُّ -رحمه الله-: "وقوله: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ): يقول -تعالى ذِكْرُه-: الذي جعلنا حَوْلَهُ البَرَكةَ لِسُكّانِهِ في مَعايشِهم وأقواتِهم وحُرُوثِهم وغُرُوسِهم" (تفسير الطبري).
وروى البُخاريُّ عن ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَفِي نَجْدِنَا؟ فَأَظُنُّهُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ".
وقال ابن رجب -رحمه الله-: "واعْلَمْ أنّ البَرَكةَ في الشّامِ تَشمَلُ البَرَكةَ في أمور الدِّينِ والدُّنْيا؛ ولهذا سُمِّيَتْ الأرض المُقدَّسة" (مجموع رسائل ابن رجب).
وإلى اللِّقاءِ في المَقالِ القادمِ -بإذنِ الله-.
واللهُ المُوفِّق.