الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 16 يونيو 2025 - 20 ذو الحجة 1446هـ

عبقرية ابن تيمية التي استفاد منها الذكاء الاصطناعي

كتبه/ أشرف الشريف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد أقيمت كثيرٌ من القواعد الكلية لدى فِرَق المتكلمين على المنطق اليوناني الأرسطي، وظهرت آثاره الفلسفية في مقالاتها العقدية، واتخاذه آلة لها في سجالاتها الكلامية، ومعترك التَّحَوُّلات الفِكْرِيَّة لتدعيم نظرياتها، وهو منطق أثبتت التجارب أن بعض نتائجه غير صحيحة، لأنه منطق شكلي صوري لا ينظر إلى صدق المقدمات وصحتها، كما أن نتائجه عقيمة لا جديد فيها؛ فما هي إلا نتائج موجودة في المقدمات، ويمكن الاستغناء عنه بالفطرة، وهو منطق لا يلتفت إلى استقراء الجزئيات التي يكون البدء بها -غالبًا- طريقًا إلى القوانين الحاكمة، ومِن ثَمَّ لا يمكن للمعرفة الحديثة الاعتماد عليه لاستكشاف حقائق علمية جديدة، فهو منطق أجوف لا فائدة منه إلا كونه -عند البعض- أداةً لتمرين العقول، مع وجود منهج آخر لاكتشاف المعرفة وإضافة الجديد.

بالإضافة إلى أن المنطق الأرسطي يجنح في بعضه إلى توهمات بُنِيت على تصورهم الباغي في الإلهيات، ويجنح في كثير من قواعده وقيوده واشتراطاته إلى التطويل والحشو؛ مما يُورث عيًا في البيان، وصعوبة في إنتاج المعارف سهلة التحصيل بسيطة التكوين، فهو يُطوّل العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا.

ومن ثَمَّ تعرض المنطق الأرسطي للنقض، على يد بعض أبناء بيئته الأصلية، ومن بعض علماء المسلمين كشيخ الإسلام ابن تيمية الذي نقده نقدًا تفصيليًّا لم يوجد مثله -فيما وصل إلينا- لاهتمامه بالنقد الداخلي للنظام الأرسطي، أمّا نقد فلاسفة الغرب المحدثين كبيكون، ومن بعده ديكارت فكان نقدهم للمنطق الأرسطي مُجْمَلًا، يهتف باقتراح بديل جديد للنموذج الأرسطي، والبحث عن نظام تقني آخر أجدى للفكر العلمي والفلسفي.

ولقد تجلت عبقرية شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على أصحاب هذا المنطق بمنهجية علمية لا تزال مصدر إلهام لكثير من مناهج النقد المعاصرة؛ لقد أعاد ابن تيمية -رحمه الله- بعبقرية فريدة مسار المنطق على نهج منتج ثجاج متميز، يجمع بين التجربة والاستقراء، ويتميز بأنه لم يقف عند هذا الحد -كما فعل فرانسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي الغربي-، بل إن ابن تيمية تجاوز ذلك إلى الاستدلال التناظري أو قياس العلة.

ولقد شهدت الدراسات المعاصرة التي أُجريت على المنطق للاستفادة منه في تطوير الذكاء الاصطناعي، بعبقرية المنطق التيمي، لتخبرنا -تلك الدراسات- صريحًا: أن البحث الدقيق قادهم إلى اثنين من المفكرين قدَّما نموذجًا يتوافق مع آليات التفكير الحديث؛ أولهم: الفقيه المنطقي الإسلامي ابن تيمية -رحمه الله- وثانيهم: الفيلسوف سيكستوس، وابن تيمية أكثر اتساقًا في نموذجه، وفق قول عالم الحاسوب جون سوا؛ لأنه لم يكتفِ برفض القضايا الكلية والاعتماد على التجربة، بل أسس لمنهج معرفي متكامل يجمع بين التجربة، والاستقراء، والقياس التناظري؛ مما جعل منهجه أكثر توافقًا مع العقل العلمي الحديث.

وهذا القياس التناظري -القائم على مقارنة المسائل الجديدة بالمسائل السابقة من خلال العلة المشتركة -عند ابن تيمية، يشبه في جوهره تمامًا ما تقوم عليه أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم. فهو نموذج يعتمد على تحليل البيانات السابقة لاستخلاص الأنماط، والتكيف مع المتغيرات بدلًا من الالتزام بقواعد جامدة، ويصرح جون سوا: أن ابن تيمية (أول) من صاغ مبدأ الاستدلال بالحالات، وهو أحد الأسس المهمة في الذكاء الاصطناعي.

وفي هذا بيان أبلج بسبق المسلمين في المناهج العلمية التجريبية، وبيان تأسيسهم للمنهج الحضاري الذي أقيمت عليه حضارة الغرب اليوم.

وابن تيمية بمنهجه الألمعي يمثِّل أنموذجًا يدل على الريادة، ومن ريادته؛ تنبيهه على مبدأ تأسيسي في تحرير المفاهيم، يقوم على تحرير المفهوم والابتعاد عن الإطلاقات الموهمة، والاستفصال عند إيهام المقال، ومن ثَمَّ الانتقال إلى مناقشة المضمون، وبحث حمولة اللفظ في النطاق الشرعي والعقلي أخذًا وردًا.

هذا ابن تيمية الذي يتسابق خصومه في تشويه صورته أصبح اليوم مرجعًا في أسس الذكاء الاصطناعي الحديث، وعلامة بارزة في صنع المستقبل.