كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أمر الله -تعالى ذكره- خلقَه وعباده أن يتذكروا نعمه وآلاءه العظيمة عليهم، وبيَّن لهم أن مِن أسباب فلاحهم تذكُّر هذه النعم؛ فقال -تعالى-: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف: 69).
وقال -عز وجل-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، فتذكُّر النعم وشكرها من أسباب فلاح العبد وزيادة النعم، والنجاة من نقصانها وزوالها.
ومن أعظم النعم التي تستوجب الشكر على العباد: نعمة التوفيق للطاعة والعبادة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، من حرصه العظيم على شكر نعم الله عليه، يقوم من الليل حتى تتورم قدماه الشريفتان، فتقول له عائشة -رضي الله عنها-: أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فيقول -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا) (متفق عليه).
وكانت أيام العشر من ذي الحجة وما تلاها من الأيام المعدودات -أيام التشريق الثلاثة- أيام ذكر وطاعة وعبادة، وصلة أرحام وصدقات، وتلاوة القرآن؛ ذاق فيها أكثر المسلمين -بفضل الله- لذة الأنس بالله والقرب منه -تبارك وتعالى-.
ولا شك أن هذه مكتسبات عظيمة ونِعَم جليلة، ينبغي على المسلم أن يصونها، وأن يداوم عليها، ويتضرع إلى الله -عز وجل- أن يثبِّته عليها؛ فقد كان أكثر دعاء الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). وكان من دعائه: (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ) (رواه مسلم).
وكان يقول -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح وإذا أمسى: (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرَفَةَ عَيْنٍ) (أخرجه النسائي في السنن الكبرى والحاكم، وحسنه الألباني).
ومرور الأيام عمومًا، والأيام المعلومات المباركات والأيام المعدودات خصوصًا، يذكِّر المسلم بسرعة انقضاء الآجال والأعمار، وقرب الرحيل والقدوم على الله، فيكون في طاعة وعبودية دائمة لمولاه -عز وجل-؛ قال الله -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح: 7، 8).
قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وقوله: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ): اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا فرغت من صلاتك، فانصب إلى ربك في الدعاء، واسأله حاجاتك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: (فَإِذَا فَرَغْتَ) من جهاد عدوك (فَانْصَبْ) في عبادة ربك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإذا فرغت من أمر دنياك، فانصب في عبادة ربك.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن الله -تعالى ذكره- أمر نبيه أن يجعل فراغه من كل ما كان به مشغولا من أمر دنياه وآخرته، مما أدى له الشغل به، وأمره بالشغل به إلى النصب في عبادته، والاشتغال فيما قربه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصص بذلك حالًا من أحوال فراغه دون حال، فسواء كل أحوال فراغه، من صلاة كان فراغه، أو جهاد، أو أمر دنيا كان به مشغولًا؛ لعموم الشرط في ذلك، من غير خصوص حال فراغ، دون حال أخرى" (تفسير الطبري بتصرف).
قال ميمون بن مهران -رحمه الله-: "لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل يعمل في الدرجات؛ يعني: أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدرجات، ومن عداهما فهو خاسر؛ كما قال الله -تعالى-: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 1-3)؛ فأقسم الله -تعالى- أن كل الإنسان خاسر إلا مَن اتصف بهذه الأوصاف الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الحق. فهذه السورة ميزان للأعمال، يزن المؤمن بها نفسه، فيتبين له بها ربحه من خسرانه؛ ولهذا قال الشافعي -رحمه الله-: "لو تفكر الناس كلهم فيها؛ لكفتهم" (ينظر: لطائف المعارف).
وقال بعض السلف: "كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس". يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك ويعدونه خسرانًا، كما قيل:
ألـيـس من الخـسـران أن لـياليا تمر بلا نفع وتحسب من عمري؟
فاللهم يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك.