كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد انتهينا من مرحلة النشأة لمحمود شاكر، الذي لَم يكن عَلَمًا على شخص، وإنَّما كان علمًا على ثروةٍ ضخمةٍ من فنون اللسان العربي، تجمعت بالحفظ والدرس والتحصيل والتمحيص والدأب والصبر والإيمان في ثمانٍ وثمانين سنةً من يوم مولده إلى يوم وفاته.
فنشأته في هذا البيت وهذه البيئة: غرست في ذهنِه البكرِ أصولَ العلوم، ومِن هذا الجذر الغليظ العميق مِن فنون العلم تفرَّعت شجرة المعرفة في ذهنه، وبهذه الحصيلة الأولية القوية من المحفوظ، مع الملكات الموهوبة، والمُعلِّمين المُتميِّزين، نمت في ذهنه تلك البذور، وانشعبت من أصلها هذه الفروع، فأصبح بين أقرانه ورفاقه الغصنَ الذي يطول والزهرةَ التي تعد.
وبينَّا كيف شغلته قضية "المنهج"، والتي كانت من أهم أسباب خلافه الأول مع الدكتور طه، فقال في كتابه "أباطيل وأسمار" (ص: 19): (زادتني معالجة نقده -أي: طه حسين- يقينًا في أنَّ الغموض إذا أحاط بلفظ "المنهج"، أدَّى إلى خلطٍ كثيرٍ في فهم الآداب، وفي تفسيرها، وفي شرحها، ثم في تصوير أحداث العصر وأفكاره ورجالاته وأحواله، بوجهٍ عام).
وقال أيضًا في "أباطيل وأسمار" (ص: 18)، في بيان حال الغموض الذي أحاط بقضية "المنهج" عند لويس عوض، وسيأتي هذا بالتفصيل -إن شاء الله-: (حتى عجبتُ وتخوَّفتُ إذا كانت كلمة "المنهج" لَم تزل محفوفةً بكل هذا القدر العجيب من الغموض والظلمة في عينَي الدكتور لويس عوض أستاذ الأدب الإنجليزي).
وبينَّا النَّهْجَ الذي سلكه في قراءةِ الشِّعْرِ وغيره، وأنَّه كان قائمًا على مسألة "التَّذوق"، وأنَّه قد صرَّح بهذا كثيرًا في مقالاته وكتبه، وذكرنا نصوصًا من كلامه، مثل قوله في مُقدِّمته الجديدة على كتابه "المُتنبِّي" (ص: 11، 12): (وبهذا التَّذوق المُتَتابع الذي أَلِفْتُه، صار لِكُلِّ شِعْرٍ عندي مَذاقٌ وطَعْمٌ وشَذًا ورائحةٌ، وصار مَذاقُ الشِّعْرِ الجاهليِّ وطعمُه وشذَاهُ ورائحتُه بيِّنًا عندي، بل صار تَمَيُّزُ بعضٍ مِن بعضٍ دالًّا يَدُلُّنِي على أصحابِه).
وبينَّا مدى أهمية كتاب "دلائل الإعجاز" في صناعة خيال محمود شاكر، وبناء فكره في منهج التَّذوق، الذي قرأ به منظومَ الكلامِ ومنثورَه، وبذلك اكتَشفْنا مَاهِيَّةَ الأدواتِ التي استعملها العُقابُ في قراءةِ الشِّعْرِ في سنواتِ العُزْلَة.
ومِن ذلك قولُه في مُقدِّمة عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرجانيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).
ومع مرحلةٍ أخرى مِن حياةِ أبي فهر في المقالات القادمة -إن شاء الله-.
واللهُ المُوَفِّقُ؛ لا إلهَ غَيْرُه، ولا رَبَّ سِوَاه.