كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا -سابقًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جهَّز جيش أسامة إلى أرض فلسطين بعد عودته من أداء مناسك الحج، ثم توفي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل الجيشَ الصديقُ -رضي الله عنه-.
وذكرنا أن قتالًا وقع بين المسلمين وبين الروم في أواخر عام 12 هـ، على أرض فلسطين وبالتحديد، في مكان يعرف بغمر العربات، أو وادي العربة، ثم وقعت معركة شديدة بين المسلمين والروم بقرية داثن بمدينة غزة، وقد ذهب ياقوت الحموي إلى أن معركة داثن هي المعركة الأولى التي وقعت بين المسلمين والروم، بينما ذهب بعض المؤرخين إلى أن داثن كانت هي الوقعة الثانية.
وهكذا يسير المسلمون نحو غزة، يريدون فتحها، وانتشرت الجيوش الإسلامية في ربوع الشام على حسب الخُطة التي رسمها لهم الصديق -رضي الله عنه-.
معركة داثن:
وأما فيما يخص معركة داثن التي أشرنا إليها، فلقد بلغ عمرو بن العاص أن جيش هرقل قد تجمع بكثرة في مدينة غزة، وأن الجيش مكوَّن من عشرة صلبان، تحت كل صليب عشرة آلاف فارس، ثم جاءت الإمدادات إلى عمرو، وقد اشترك عدد من الصحابة في تلك المعركة؛ منهم: سعيد بن خالد -أخو عمرو بن العاص لأمه- وعبد الله بن عمر، وأبو الدرداء، والضحاك بن قيس، وربيعة بن قيس، وعدي بن عامر، وعكرمة بن أبي جهل، وسهل بن عمرو، والحَرْث بن هشام، ومعاذ بن جبل، وذو الْكَلَاعِ الحميري وغيرهم ممن ضحوا من أجل ذلك الفتح.
وبدأت المعركة وارتفعت صيحات التكبير، وانتصر المسلمون ودخلوا غزة، مهللين مكبرين، وأظهر الله أولياءه وهزم أعداءه، وفض جمعهم (هذا ما ذكره الواقدي في فتوح الشام). وقيل: كان ذلك عام 12هـ، في خلافة الصديق. وقيل: عام 13 هـ، في خلافة عمر بن الخطاب.
ولذلك يذكر البلاذري في فتوح البلدان، أن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قد فتح مدينة غزة في خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، فهي من أوائل المدن التي فتحها المسلمون على أرض فلسطين.
ومِن المؤرخين مَن ذهب: إلى أن مدينة غزة فتحت صلحًا وليس عَنوة، ومنهم من قال: إن الفتح كان في العام الخامس عشر، والمشهور أن الفتح كان على يد عمرو بن العاص. وقيل: بل فتحها معاوية.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن أبا بكر عندما أراد أن يرسل عمرو بن العاص إلى فلسطين أوصاه فقال: "قد وليتك هذا الجيش، فانصرف إلى أهل فلسطين، واتقِ الله في سرك وعلانيتك واستحيه في خلواتك، وإياك والوهَن، أن تقول جعلني ابنُ أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به، وقد رأيتَ يا عمرو، ونحن في مواطنَ كثيرة، ونحن نلاقي ما نلاقي من جموع المشركين ونحن في قلة من عدونا، وأوصيك بالصلاة، ثم الصلاة، أذِّن بها إذا دخل وقتُها، وإني قد وليتك على من قد مررت به من العرب، وكن عليهم كالوالد الشفيق الرفيق، وإذا رأيت عدوك فاصبر ولا تتأخر، فيكونُ ذلك منك فخرًا، والزم مع أصحابك قراءة القرآن".
ثم قال أبو بكر: "سيروا على بركة الله -تعالى-، وقاتلوا أعداء الله، وأوصيكم بتقوى الله فإن الله ناصر من ينصره".
وهذه الوصية الجامعة النافعة، فيها السر الذي به فتح المسلمون العالم وسادوا الدول، وبه انتصروا على عدوهم، كما قال عمر، لقد كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام.
إن غزة هي أرض الشوق، وموطن النضال، ففيها نضج رجال الأمة، وعلت كلمة الإسلام، إن الصغير فيها بطل، والكبير فيها مناضل، والقتيل فيها شهيد -بإذن الله-، وإن قلوب الأمة لتشتاق إليها، وتتألم لألم أهلها.
وقد صدق الشافعي -رحمه الله- إذ قال عن غزة عندما حنَّ إليها:
وَإِنِّي لَـمُشْـتـَاقٌ إِلَى أَرْضِ غَــزَّةٍ وَإِنْ خَانَـنِي بَعْدَ التَّفرُّقِ كِـتــْـمَانِي
سَقَى اللّه أَرْضًا لَوْ ظَفِرْتُ بِتُرْبِها كَحَلْتُ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ أَجْفَانِي
وللحديث بقية -إن شاء الله-.