كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).
الفائدة الرابعة:
قوله -تعالى-: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) دليل على أن كل من مات على الكفر فهو مخلد في النار، هذا الحكم بالنسبة للعموم؛ أما آحاد الكفار فالواجب علينا أن نقول كما ذكر الله في القرآن: "قد تَبيَّن لنا أنهم من أصحاب الجحيم"، وإذا مررنا على قبور المشركين فإننا نبشرهم بالنار؛ لأن هذا من أحكام الدنيا بالنسبة لنا التي هي نوع من الدعوة إلى الله لترهيب الكفار الأحياء من موتهم على الكفر، وترغيبهم في الدخول في الإسلام قبل الموت، فهذا ثابت في عِدَّة أحاديث، منها: حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَكَانَ وَكَانَ، فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: (فِي النَّارِ) قَالَ: فَكَأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ) قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ، وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وفي حديث وفد بني المنتفق -وإن كان في إسناده ضعف؛ إلا أن ابن القيم -وجماعة من أهل العلم- قال عنه: إنه حديث عظيم، عليه نور النبوة، تلقته جماعة العلماء بالقبول، وفيه قال: "وَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى مِنْ خَيْرٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ؟ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ قُرَيْشٍ: وَاللهِ إِنَّ أَبَاكَ الْمُنْتَفِقَ لَفِي النَّارِ. قَالَ: فَلَكَأَنَّهُ وَقَعَ حَرٌّ بَيْنَ جِلْدِي وَوَجْهِي وَلَحْمِي مِمَّا قَالَ لِأَبِي عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: وَأَبُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ثُمَّ إِذَا الْأُخْرَى أَجْمَلُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَهْلُكَ؟ قَالَ: وَأَهْلِي، لَعَمْرُ اللهِ مَا أَتَيْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْرِ عَامِرِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ مِنْ مُشْرِكٍ، فَقُلْ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ مُحَمَّدٌ فَأُبَشِّرُكَ بِمَا يَسُوؤُكَ، تُجَرُّ عَلَى وَجْهِكَ وَبَطْنِكَ فِي النَّارِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ كَانُوا عَلَى عَمَلٍ لَا يُحْسِنُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ قَالَ: ذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ بَعَثَ فِي آخِرِ كُلِّ سَبْعِ أُمَمٍ نَبِيًّا، فَمَنْ عَصَى نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَمَنْ أَطَاعَ نَبِيَّهُ كَانَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ".
قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: "هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة" (انتهى).
وأما الجزم لكافر معين فلان بن فلان أنه في النار، فهذا إذا ورد فيه نص من كتاب أو سنة: كفرعون، وهامان، وجنودهما، وقارون، والأقوام الذين هلكوا على الكفر: كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب؛ فكل هؤلاء قامت عليهم الحجة الرسالية، ووردت النصوص بموتهم على الكفر بأعيانهم؛ لأن الله نَجَّى الأنبياء وجميع المؤمنين معهم، وأهلك الكفار؛ فلا شك في كفر هؤلاء بأعيانهم بالعموم، وكذلك في أبي لهب كما قال -تعالى-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ . مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ . سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ . وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (المسد: 1-5).
وقد نازع بعض الجهال في زماننا في خلود أبي لهب في النار، وقالوا: إنه يفعل الله ما يشاء، فيمكن أن يغفر له! وهذا تكذيب للقرآن العظيم، وجهل مُبيِن، واحتجاج بمذهب باطل في غير موضعه؛ فإنهم احتجوا بمذهب الأشاعرة في تجويز أن يُنَعِّم الله -عز وجل- الكفار ويدخلهم أعلى عليين، وأن يعذِّبَ المؤمنين ويدخلهم النار أسفل سافلين، وغفلوا عن الإضافة التي قالوها لتخفيف مذهبهم الباطل؛ قالوا: لكن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، فحذف هؤلاء المتأخرون هذه العبارة التي أوضحها هؤلاء الأشاعرة، وإن كنا نجزم ببطلان مذهبهم في تجويز ذلك، فإن ذلك منافي للحكمة، لكنهم نفاة للحكمة والتعليل، والذي لا شك فيه: أن الله قد أخبر بأنه يدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكفار النار، ولم يخبرنا بما قالوه!
وأما أن يعمم إنسان هذه المسألة دون القول بأن الله أخبرنا أنه لا يفعل ذلك، حتى ينص في المعين الذي نُصَّ على كفره وخلوده في النار -كأبي لهب-، بأنه يمكن أن يدخله الله الجنة، وأن الله يفعل ما يشاء؛ فهذا تكذيب لقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، فقد أخبرنا الله بمشيئته في خلود هؤلاء الكفار في النار وأخبرنا بتعيين مَن عَيَّن منهم: كأبي لهب؛ أولأجل قرابته من الرسول -صلى الله عليه وسلم- نكذب على الله، ونكذب بآيات القرآن؟! نعوذ بالله من ذلك.
وكذا ممَّن ورد فيهم النص: أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبب نزول الآية، وقد تقرَّر في الأصول: أن العام إذا ورد على سبب، كان هذا السبب قطعي الدخول في هذا العموم؛ فلا يجوز أن يُخرَج منه.
وأما الكفار في الأزمنة المختلفة، ومنهم في زماننا هذا مِن اليهود والنصارى والملاحدة والمشركين بالأنواع المختلفة، فنحن لا نعيِّن أحدًا منهم بعينه في النار؛ لاحتمال أن يكون ساعة احتضاره قد أسلم ونطق الشهادتين، وقد غِبنا عن ذلك، وربما كتم عنا ذلك أهلُه؛ فقد دَلَّ حديث وفاة أبي طالب أنه لو نطق الشهادة حال احتضاره قبل الغرغرة لشفع له النبي -صلى الله عليه وسلم- ونجا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وإن كنا نجزم بأنه إن مات هذا الميت على الكفر -كما هو الظاهر-؛ فهو بعينه مخلد في النار.
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "ظاهر الأدلة الشرعية أنه لا تجوز -(أي: عبارة المغفور له فلان)-؛ لأنه لا يجزم، لأن الله هو الذي يعلم الحقائق -سبحانه وتعالى-، فأهل السنة والجماعة يقولون: لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، ولا بالمغفرة؛ إلا مَن شهد له الله أو رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ، والمؤمنون في الجنة والكفار في النار.
أما أن يقال: فلان بن فلان مغفور له، أو في الجنة، لا، إلا مَن شَهِد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- كالعشرة: الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، عشرة شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة -رضي الله عنهم- وجماعة آخرين.
فالمقصود: مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجنة؛ نشهد له، وهكذا مَن شهد له الله أو رسوله بالنار، نشهد له بالنار كـأبي لهب.
أما نحن فلا نشهد لواحدٍ معينٍ، نقول: فلان بن فلان في الجنة، وفلان بن فلان في النار، لكن نقول: إن كان مؤمنًا، ومات على هذا، فهو من أهل الجنة، وإن كان كافرًا ومات على كفره، فهو من أهل النار، نشهد بالعموم".
وسُئِل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك: "ما حكم الشهادة على الكافر بعينه، أنه من أهل النار؟ وهل هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؟
الإجابة: القاعدة: أنه لا يشهد لمعين بأنه في الجنة أو في النار إلا مَن قام الدليل على حكمه في الآخرة، وقد نص أهل العلم في كتب العقائد: أنه لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار؛ إلا مَن شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمَن قام الدليل على أنه في الجنة وَجَب الإيمان بأنه في الجنة، ومن قام الدليل على أنه بعينه في النار وجب الإيمان بأنه في النار؛ وإلا فالواجب إطلاق الحكم العام بأن المؤمنين في الجنة والكفار في النار؛ لأن الكافر المعين لا يُدرى على ماذا يموت، أو لا يدرى ما مات عليه، فالله أعلم بأحوال عباده، وكذا لا يعلم عن حالة بينه وبين ربه: هل هو ممَّن يعذره الله أو لا يعذره.
فلهذا أقول: إن الواجب هو الجزم بالحكم العام بأن الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، وسائر أمم الكفر في النار كما نطق بذلك القرآن: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) (النحل: 88)، وقال -تعالى-: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المجادلة: 17).
نعوذ بالله من الكفر بالله، ونسأله -سبحانه وتعالى- الثبات على الإسلام بمَنِّه وكرمه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه" (انتهى).