كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن الأسرة هي المحضن الأول لبناء الإنسان، وبقاء النوع البشري واستمراره، ولا تستمر الحياة، ولا تعمَّر الأرض ويتكاثر الجنس البشري إلا بوجود الرابطة الأُسَريَّة بين الذكر والأنثى، وتلك سنة الله في جميع الكائنات.
والمجتمع الإنساني اليوم في أشد الحاجة لغرس القِيَم، وحِفْظ رباط الأسرة وحمايتها من التفكك والضياع؛ فالأسرة تتعرَّض إلى مخاطر جسيمة، وتواجه تحديات كبيرة على جميع المستويات قد تؤدي إلى انهيارها.
ومفهوم الأسرة وأهميتها يختلف في الفكر الإسلامي، وفي المجتمعات الإسلامية -طبقًا لرؤية الإسلام- عنه في الفكر الغربي الليبرالي المسيطر على المجتمعات الغربية؛ فالمجتمع الإسلامي تعظّم ثقافته الدينية مؤسسة الأسرة، وتحيطها بمنظومة من القِيَم الأخلاقية والقواعد الشرعية التي تحافظ على قوتها وفعاليتها، حيث تعد الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع، وبصلاحها يصلح المجتمع كله؛ لذا يُعد تكوين الأسرة في الإسلام أحد حلقات تحقيق العبودية لله -تعالى-، والتي خَلَق الله الخلق مِن أجلها.
ومِن مظاهر العبودية في تكوين الفرد المسلم للأسرة في الإسلام أنه:
- يحفظ بها نفسه من الانحراف الجنسي؛ فلا سبيل لإفراغ الشهوة الجنسية البشرية إلا من خلال الزواج؛ لأن الإنسان عبد لله حريص على رضاه.
- يعمر به الأرض بإنجاب النسل الذي يعبد الله، والذي يحقق النفع للمجتمع بالتزامه القيمي وتقدمه العلمي النافع للإنسانية، بخلاف الفرد الغربي الليبرالي؛ الذي هو أسير للذته من أي طريق كانت، ونظرته للمجتمع نظرة عدائية متوجهة إلى أن مكونات المجتمع لا بد أن تكون في خدمة لذاته؛ تلك اللذة التي لا يحدها حدٌّ؛ لذلك تختلط عنده الأنساب، وتظهر الموبقات من (الزنا - زنا المحارم - الشذوذ - البيدوفيليا - نكاح الحيوانات - إلخ) في المجتمعات الغربية بكثرة، كما أن التعامل عنده مع الأسرة -إن سعى لإيجادها- مبني على أنها وسيلة لمصلحة وتحقيق للذة وفقط؛ فهي كالعقد التجاري أو الشراكة المصلحية؛ لذا تجده يتبنى مفاهيم (الزواج المدني - تقاسم الثروة - زواج الشواذ - إلخ).
ومعلوم أن الأسرة في الإسلام تُبنى بين ذكر وأنثى لكلٍّ منها خصائصه التي تميزه، وقد تميز كلٌّ مَن الرجل والمرأة بخصائص ومَلَكَات وقدرات بدنية ونفسية، تجعل كلَّ واحد منهما منوطًا بصلاحياتٍ مناسبة له لأداء وظائف حياتية وحيوية معينة، لا يستطيع الآخر القيام بها، وهي سنة الله في الخلق جميعًا.
والتنكر لتلك الفروق والخصائص، غير جائز عقلًا وشرعًا وطبعًا؛ لما فيه من امتهان للفطرة وإنكار لظواهر طبيعية، بل إن العدالة والمصلحة تستوجب مراعاة تلك الخصائص الفطرية الطبيعية لكلٍّ من الرجل والمرأة، عند تقرير المسئوليات والتبعات والوظائف، التي يكلَّف بها ويؤديها كلٌّ منهما.
وقد جعل الله الخالق العدل -سبحانه وتعالى- الذي يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير، حقوق وواجبات على كلِّ طرف في بناء الأسرة مناسبة لخصائصه التي خلقها الله عليه؛ فالمساواة المطلقة لا تعني العدل، بل العدل في الإسلام أن يُكلَّف كل فرد بما يطيق، وأن يأخذ مَن يستحق ما يستحق؛ وعليه فإن الزواج في الإسلام: رابطة شرعية مُحْكَمَة بين رجل وامرأة، على وجه الدوام والاستمرار، وتنعقد بالرضا والقبول الكامل بينهما، وَفْق الأحكام المفصلة شرعًا، ويبنى على مفاهيم السكن والمودة والرحمة.
فالسكن: يشمل الراحة والطمأنينة، والدفء والحماية.
والمودة: تشمل الإيثار والرأفة، والحب والعطاء المتبادل.
والرحمة: فوق ذلك من الإيثار والرأفة والحب بلا عوض.
والمقصد الأول من الزواج: تكوين الأسرة التي تهدف إلى حفظ النسل أو الجنس البشري، تعميرًا للأرض وتواصلًا للأجيال، حيث تعد المحضن الأول للأفراد، لا تقوم برعاية أجسادهم فقط، بل الأهم أنها تقوم بغرس القيم الدينية والخلقية في نفوسهم؛ لذلك تحث الشريعة الإسلامية وتعمل بتشريعاتها على ضمان استقرار الأسرة ورعاية أفرادها على المبادئ والقِيَم، وأسس الإنفاق الصحيح التي تحقق حياة سعيدة مستقرة للأفراد فيها.
كما تُوجِّه الشريعة الإسلامية إلى ضرورة تحمل المسئولية الجماعية؛ للحث على تكوين الأسر المستقرة، وذلك بالعمل على وضع الخطط والمناهج الصالحة للتشجيع على الزواج، وحل المشكلات المادية التي تعترض الزواج (كالسكن والبطالة، إلخ)، والتأكيد على عدم المغالاة في المهور، والإسراف في حفلات الزواج، ومحاربة العادات السيئة في مظاهرها.
والمستقر عند الجميع، -حتى عند أعداء الأمة- أن البناء الأسري الإسلامي هو مِن أعظم عوامل قوة المسلمين عبر العصور؛ لذا نجدهم يعملون بكلِّ ما أتوا من قوة -في محاولات مستمرة- على هدم بنيان الأسرة المسلمة عن طريق بث مفاهيم النسوية والذكورية في المجتمع، وإشعال نار الصراع الدائم بين الرجل والأنثى من خلال التغلغل الإعلامي، أو عن طريق منع الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوج والزوجة في الأسرة من خلال ما يقدَّم من مشاريع قوانين في البرلمانات العربية والإسلامية تتبناها المنظمات النسوية، أو منظمات المجتمع المدني ذات التمويل الغربي، والتي تهدف إلى تصعيب الزواج وبناء الأسر، أو إلى تفخيخ العلاقة بين الزوج وزوجته في الأُسَر القائمة، كأحد أهم وسائل تحقيق الفوضى المجتمعية التي تعد البديل التكتيكي عند الغرب الآن الممهِّد لمشروع الفوضى الخلاقة الإستراتيجي عندهم، والمراد لتقسيم الدول العربية والإسلامية -عافانا الله من شرهم-.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.