الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 02 أغسطس 2023 - 15 محرم 1445هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (125) عقوبة الله -عز وجل- لقوم إبراهيم لما كَذَّبوه

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (‌أَلَمْ ‌يَأْتِهِمْ ‌نَبَأُ ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِهِمْ ‌قَوْمِ ‌نُوحٍ ‌وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة: 70).

لم يذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه عقوبة قوم إبراهيم لما كَذَّبوه؛ إلا في هذا الموضع، والله أعلم.

والله -عز وجل- قد ذكر عقوبة المكذبين إجمالًا في مواضع متعددة من كتابه، وأما إهلاك قوم إبراهيم فلم يذكره تفصيلًا، وذكره هنا في هذا الموضع إجمالًا، وأكثر المفسرين يذكرون إهلاك الملك النمروذ -الذي حَاجَّ إبراهيم في ربِّه-؛ بعضهم ذكر ذلك بالبعوضة التي دخلت في أنفه حتى دخلت في دماغه، فظل يُضرب بالمطارق حتى هلك مِن شدة الألم، وبعضهم يذكر هلاكه دون تفصيل، وليس في الكتاب ولا في السنة الصحيحة خبر ينبئنا عن كيفية هلاك النمرود.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- واعظًا لهؤلاء المنافقين المكذِّبين للرسل: (‌أَلَمْ ‌يَأْتِهِمْ ‌نَبَأُ ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِهِمْ) أي: ألم تخبروا خبر مَن كان قبلكم مِن الأمم المكذبة للرسل؛ قوم نوح وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض؛ إلا مَن آمن بعبده ورسوله نوح -عليه السلام-. وعاد كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذَّبوا هودًا -عليه السلام-، وثمود كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحًا -عليه السلام- وعقروا الناقة، وقوم إبراهيم كيف نصره الله عليهم وأيَّده بالمعجزات الظاهرة عليهم، وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني -لعنه الله-، وأصحاب مدين -وهم قوم شعيب عليه السلام- وكيف أصابتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة. (وَالْمُؤْتَفِكَاتِ): قوم لوط، وقد كانوا يسكنون في مدائن -(قلتُ: أي: كانوا ثلاث قريات، وبذلك جمعت)-، وقال في الآية الأخرى: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ ‌أَهْوَى) (النجم: 53) أي: الأمة المؤتفكة. وقيل: أم قراهم، وهي "سدوم".  

والغرض: أن الله -تعالى- أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطًا -عليه السلام-، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحدٌ من العالمين.

وقوله: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالحجج والدلائل القاطعات، فما كان الله ليظلمهم، أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي: بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار" (انتهى من تفسير ابن كثير).

في الآية فوائد:  

الفائدة الأولى: قد جعل الله -عز وجل- عاقبة تكذيب الرسل، العذاب في الدنيا قبل الآخرة؛ قال الله -عز وجل-: (‌فَمَنِ ‌اتَّبَعَ ‌هُدَايَ ‌فَلَا ‌يَضِلُّ ‌وَلَا ‌يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . ?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 123-125)، وقال -عز وجل-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة: 55)، وقال -عز وجل-: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة: 101).

وكل هذه الأدلة تدل على عذاب أهل الكفر والنفاق، والتكذيب للرسل، ومهما رأى الناس مِن نعيمهم الدنيوي، وكثرة أموالهم وسلطانهم ولذاتهم؛ فهم لا يدرون حقيقة تعاستهم؛ ولذا قال -سبحانه وتعالى- في جواب أهل العلم والإيمان للمغرورين مِن قومهم في قصة قارون؛ قال -تعالى-: (‌فَخَرَجَ ‌عَلَى ‌قَوْمِهِ ‌فِي ‌زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) (القصص: 79-81).

وما يراه الناس في واقع الحياة اليوم مِن كثرة مُتَع أهل الكفر في الغرب وفي الشرق؛ مما يطلب الناس لأجله الفرار والهجرة إليهم، مع أن ذلك يغلب عليه ضياع الدِّين؛ إما لهؤلاء لمهاجرين، وإما لذرياتهم مِن بعدهم، وما ذلك إلا للغرور الذي يحصل لهم بسبب اللذات الوهمية التي يرونها، مع أن هذه اللذات فيها مِن النكد والغم، وما يعقبها مِن أنواع الآلام؛ بسبب الأمراض، أو بسبب المصائب أو بسبب الاكتئاب الفظيع الذي أدَّى بكثيرٍ منهم إلى الانتحار؛ ما لا يراه الراغبون في مخالطة هؤلاء والهجرة إليهم؛ فليحذر المؤمن على نفسه من مخالطة هؤلاء المعذبين في دنياهم قبل أخراهم.

الفائدة الثانية: الله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة، قال -سبحانه-: (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، فالله -عز وجل- لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجة الرسالية، وهذا من مقتضى عدله وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا بَيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا يظلم الناس، وهي:

الفائدة الثالثة: قوله -سبحانه-: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، فالله -عز وجل- مُنَزَّه في كمال عدله عن الظلم، (‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يَظْلِمُ ‌مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء: 40)، وقال -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي ‌حَرَّمْتُ ‌الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) (رواه مسلم).

والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس كما يقول البعض من المتكلمين: أنه التَّصَرُّف في غير ملكه؛ ولذا جعلوا الظلم مستحيلًا بذاته في حق الله -سبحانه وتعالى-، وظاهر الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنِّي ‌حَرَّمْتُ ‌الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) أنه مُنَزَّه -سبحانه وتعالى- عن فعله مع قدرته عليه، ولكنه لا يفعله؛ لأن كمال عدله ينافي أن يظلم؛ ولذا فإنه -سبحانه وتعالى- لا يعذِّب الناس إلا على أعمالهم، كما في هذا الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ)، فلا يُعَذَّب أحدٌ إلا بذنبٍ عمله بإرادته وقدرته التي خلقها الله له، ولا يجوز في حقه -سبحانه وتعالى- أن يعذب الأنبياء والملائكة والطائعين، وينعِّم الكفار والزنادقة والملحدين، والفاسقين والظالمين؛ بحجة أنه يتصرف في ملكه كما يقول الأشاعرة! بل هو -سبحانه وتعالى- لا يفعل ذلك؛ لكمال حكمته -سبحانه-.

والحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ ‌عَذَّبَ ‌أَهْلَ ‌سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، لا يعني أن الله يمكن أن يعذِّبَ المطيعين على طاعتهم؛ خاصة الأنبياء والملائكة الذين عصمهم الله مِن معصيته، وهم لو عصوا على مذهب مَن يُجَوِّز الصغائر عليهم؛ فإنهم يتوبون إلى الله، ولا يصرون عليها على قول جميع العلماء، وهذا لا يعذِّب الله -عز وجل- به، وإنما معنى الحديث: أن الله لو أراد أن يعذبهم لجعلهم يفعلون ما يستحقون به العذاب، فيعذبهم وهو غير ظالم لهم، كما قال -سبحانه-: (‌وَإِذَا ‌أَرَدْنَا ‌أَنْ ‌نُهْلِكَ ‌قَرْيَةً ‌أَمَرْنَا ‌مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)، وقال -عز وجل-: (‌وَإِنْ ‌كَادُوا ‌لَيَفْتِنُونَكَ ‌عَنِ ‌الَّذِي ‌أَوْحَيْنَا ‌إِلَيْكَ ‌لِتَفْتَرِيَ ‌عَلَيْنَا ‌غَيْرَهُ ‌وَإِذًا ‌لَاتَّخَذُوكَ ‌خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء: 73-75).

فالله لا يعذِّب أحدًا إلا بعمل، أو قول، أو اعتقاد عمله بقدرته وإرادته التي خلقها الله له؛ ولذا قال الله -عز وجل-: (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)؛ فهم لا يعذَّبون إلا على ظلمهم لأنفسهم، وليس على مجرد إرادة الله أن يعذبهم دون عملٍ منهم، فإن هذا لا يكون، ولا يقع؛ لأن الله -تعالى- لا يريد ذلك؛ لكمال علمه وكمال عدله، وكمال حكمته. والله أعلم.