الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
السبت 15 أبريل 2023 - 24 رمضان 1444هـ

اغتنام ليلة القدر

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقد اختص الله -تعالى- شهر رمضان بليلة عظيمة القدر لا نظير لها؛ ألا وهي: "ليلة القدر" التي كان يبشر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم- بها مِن أول معرفته بدخول شهر رمضان، ففي الحديث المرفوع: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ ‌قَدْ ‌حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا كل محروم) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

وفي بيان فضلها وقدرها أنزل الله -تعالى- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- سورة كاملة هي (سورة القدر)، قرأنا يتلى إلى يوم القيامة: قال -تعالى-: (‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌فِي ‌لَيْلَةِ ‌الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر: 1-5).

وفي شأن هذه الليلة المباركة أيضًا وبيان بعض خصائصها، قال -تعالى- أيضًا: (حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . ‌أَمْرًا ‌مِنْ ‌عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان: 1-6).

وفي بيان فضل قيامها على سائر قيام الليالي الأخرى، وأن إدراك قيامها وحدها كفيل بمغفرة ما تقدَّم من ذنوب العبد؛ جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ قَامَ ‌لَيْلَةَ ‌الْقَدْرِ ‌إِيمَانًا ‌وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، ويستحب فيها -كما هو معلوم-: الإكثار من العبادات والطاعات؛ خاصة الدعاء، وفي مقدمة هذا الدعاء: ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: (قُولِي: ‌اللَّهُمَّ ‌إِنَّكَ ‌عُفُوٌّ ‌تُحِبُّ ‌الْعَفْوَ ‌فَاعْفُ ‌عَنِّي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وفي حديث عائشة هذا:

- دليل على إمكان معرفة ليلة القدر وبقائها، وأنها لم ترفع.

- دليل على استحباب الدعاء في هذه الليلة بهذه الكلمات.

وطبقًا للأدلة الشرعية يكون تحري هذه الليلة في الليالي الوتر من الليالي العشر الأخيرة من رمضان.

وينبغي في ليلة القدر:

- صلاة المغرب والعشاء والفجر فيها في المسجد مع الجماعة؛ لعظم أجر صلاة الجماعة عامة، والعشاء والفجر خاصة، فعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (‌مَنْ ‌صَلَّى ‌الْعِشَاءَ ‌فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى ‌اللَّيْلَ ‌كُلَّهُ) (رواه مسلم). وفي رواية للترمذي: (مَنْ ‌شَهِدَ ‌العِشَاءَ ‌فِي ‌جَمَاعَةٍ ‌كَانَ ‌لَهُ ‌قِيَامُ ‌نِصْفِ ‌لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى العِشَاءَ وَالفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

- قيام ليلتها في جماعة مع الإمام: ففي الحديث المرفوع: (إِنَّ ‌الرَّجُلَ ‌إِذَا ‌صَلَّى ‌مَعَ ‌الْإِمَامِ ‌حَتَّى ‌يَنْصَرِفَ ‌حُسِبَ ‌لَهُ ‌قِيَامُ ‌لَيْلَةٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، ومقتضى ذلك: الصلاة خلف الإمام، والقيام كله بما في ذلك أداء الوتر معه.

- كثرة الدعاء طوال هذه الليلة؛ خاصة بالدعاء الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌اللَّهُمَّ ‌إِنَّكَ ‌عُفُوٌّ ‌تُحِبُّ ‌الْعَفْوَ ‌فَاعْفُ ‌عَنِّي).

- جعل جزء من صلاة السنن في هذه الليلة وغيرها -خاصة السنن البعدية- في البيت بعيدًا عن أعين الغير؛ فالأولى صلاة التطوع في البيت، وصلاة الفرض مع الجماعة في المسجد، وفي الحديث المرفوع: (صَلَاةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعًا حَيْثُ لَا يَرَاهُ النَّاسُ تَعْدِلُ صَلَاةً ‌عَلَى ‌أَعْيُنِ ‌النَّاسِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ) (رواه أبو يعلى، وصححه الألباني).

- التنوع في العبادات والطاعات لدفع الملل أو التعب، وللإكثار من أعمال الخير في هذه الليلة المباركة، فإلى جانب صلاة القيام والدعاء، فهناك قراءة القرآن والذكر والاستغفار، وهناك أيضًا الأعمال الصالحة التي يتعدَّى نفعها للغير إن أمكن، كإطعام صائم، والتصدق بالمال ونحوه على فقير أو مسكين، أو إعانة ضعيف أو محتاج، أو إعانة الأهل في البيت، أو زيارة مريض، أو صلة رحم ولو بالاتصال الهاتفي.

ويدخل في زمرة تلك العبادات ترديد أذان كل صلاة في هذه الليلة بعد المؤذن، والذكر الوارد بعد الأذان، وإسباغ الوضوء، والذكر بعده، والتبكير إلى المسجد لصلاة الجماعة والقيام، وذِكْر الخروج من البيت وذكر دخول المسجد، وصلاة السنن القبلية والبعدية، والدعاء بين الأذان والإقامة، فلا يستهان بطاعة وإن قَلَّت، فثواب أي منها مضاعف مضاعفة تفوق كل وصف -بحمد الله تعالى وفضله-.

- الجمع في تلك الأعمال الصالحة بين الكيف والكم، فيكون الهم في أداء الأعمال الصالحة أن تكون على أكمل وجه وأحسن أداء، مع الإكثار من أعدادها على قدر الإمكان.

- الاعتكاف في المسجد، واعتكاف ليالي وأيام العشر الأواخر من رمضان سنة مؤكدة، ويوم وليلة القدر منها.

- أداء عمرة فيها، وعمرة في رمضان في الأجر كأجر حجة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليلة القدر منها، مع ما في فضل ليلة القدر وفضل الصلاة والقيام في المسجد الحرام، وهذه الأعمال تتطلب من العبد -لتحصيل أكبر قدرٍ منها كمًّا ونوعًا- إعداد العدة لها.

ومن مظاهر الاستعداد لها:

- تقليل الطعام والشراب عند الإفطار، فيكتفي المرء بما يذهب عنه الجوع والظمأ، ويتجنب الإكثار من الطعام والشراب بما يؤدي إلى التخمة والخمول والكسل عن العبادات والطاعة.

- عدم إجهاد النفس طوال النهار بالانكباب على أعمال دنيوية كثيرة مجهدة يحتاج المرء بعدها إلى الراحة البدنية في الليل، وتحد من القدرة على الاجتهاد في العبادة تلك الليلة.

- تحفيز النفس وتذكيرها بفضل العبادات والعمل الصالح في تلك الليل؛ إذ هي أفضل من ثلاثين ألف ليلة، فكل لحظة وثانية عبادة فيها لها قيمتها ووزنها.

- لا بأس بأخذ قسط من الراحة أو القيلولة قبل دخول هذه الليلة بنية التقوى على العبادات في تلك الليلة.

- تجنب المعاصي والذنوب القولية والفعلية الكبيرة والصغيرة يومها وليلها، فمن شؤم المعاصي حرمان العبد من الطاعات أو الوقوع في الاستهانة بتحصيلها وأدائها على الوجه الأكمل، والسيئات يذهبن الحسنات كما أن الحسنات يذهبن السيئات.

- تجنب أكل الحرام والمشتبه في حله، فما نبت من حرام فالنار -لا الجنة- أولى به.

- الحرص على سلامة القلب مِن: الحقد والحسد والضغينة للآخرين.

هل لليلة القدر علامات تُعرَف بها؟

لليلة القدر علامات خفية تقع خلال الليلة، وعلامات ظاهرة تدرك بعد انتهائها، أما العلامات الخفية، فمنها:

- كثرة نزول الملائكة إلى الأرض فيها: فهي فيها أكثر من الحصى، قال -تعالى-: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر: 4)، فتنزَّل تفيد الكثرة.

قال ابن كثير -رحمه الله-: (أي: يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيمًا له، وأما الروح فقيل: المراد به جبريل -عليه السلام-، فيكون من باب عطف الخاص على العام. وقيل: هم ضرب من الملائكة).

وورد في صحيح ابن خزيمة وحسنه الألباني، أن الملائكة في تلك الليلة أكثر في الأرض مِن عدد الحصى.

- أنها سلام حتى مطلع الفجر:

كما قال -تعالى- عنها: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر: 5).

قال الإمام الشوكاني في فتح القدير: (أي: ما هي إلا سلامة وخير كلها، لا شر فيها. وقيل: ذات سلامة من أن يؤثِّر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة. قال مجاهد: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا ولا أذى). وفي حديث جابر المرفوع: (‌لَا ‌يَخْرُجُ ‌شَيْطَانُهَا ‌حَتَّى ‌يَخْرُجَ ‌فجرها) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني لغيره).

وقال الشعبي: "هو تسليم الملائكة على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن". وعن عطاء: "يريد سلام على أولياء الله وأهل طاعته حتى مطلع الفجر، أي: حتى وقت طلوعه". وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن الملائكة تسلِّم على كل مؤمن ومؤمنة في ليلة القدر، ومَن تسلم عليه يغفر له ما تقدم من ذنبه.

وهناك أربعة لا تسلم عليهم الملائكة في ليلة القدر، وهم:

- المصر على معصية (وأهل الكبائر أولى)، والمشاحن، وعلاج ذلك المسامحة لله -تعالى-، ومدمن الخمر (وفي حكمها تناول المخدرات)، والكاهن، ومعلوم حرمة العرافة وإتيان العرافين، فمَن أتي عرافًا لا تقبل له صلاة أربعين يومًا.

- طمأنينة نفس المؤمن وانشراح صدره فيها، وشعوره بلذة القيام فيها بما لا يجده في غيرها من الليالي؛ لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية.

أما العلامات الظاهرة:

جاء في أمارتها فيما أخرجه مسلم في صحيحه، أن الشمس تطلع في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع فيها، وفي الحديث عن واثلة بن الأسقع وعبادة بن الصامت مرفوعًا: (‌لَيْلَةُ ‌الْقَدْرِ ‌لَيْلَةٌ ‌بَلِجَةٌ ‌لَا ‌حَارَّةٌ ‌وَلَا ‌بَارِدَةٌ وَلَا سَحَابَ فِيهَا وَلَا مَطَرَ وَلَا رِيحَ وَلَا يُرْمَى فِيهَا بِنَجْمٍ وَمِنْ عَلَامَةِ يَوْمِهَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: (‌لَيْلَةُ ‌القَدْرِ ‌لَيْلَةٌ ‌سَمْحَةٌ ‌طَلِقَةٌ ‌لَا ‌حَارَّةٌ ‌وَلَا ‌بَارِدَةٌ ‌تُصْبِحُ ‌الشَّمْسُ ‌صَبِيحَتَهَا ‌ضَعِيفَةً ‌حَمْرَاءَ) (رواه البيهقي في السنن وأبو داود الطيالسي، وصححه الألباني). ومعنى: لا يرمى فيها بنجم، أي: لا يرمى فيها بشهب.

وفي حديث جابر المرفوع: (كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني لغيره)، فليلة القدر ليلة صافية وضيئة، يكون الجو فيها مناسبًا، وطقسها معتدل، ويليها طلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها حتى ترتفع.

وقد يرى الله -تعالى- أحد عباده المؤمنين فيها علامة يعرف بها هذه الليلة، أو يراها في منامه، فتكون له كرامة؛ فالأولى له سترها فتكون بينه وبين الله -تعالى-.

وقد ورد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: إن رجالا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر – يعني في المنام – في السبع الأواخر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أرى رؤياكم قد تواترت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) (متفق عليه). وعند مسلم: رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، ‌فَاطْلُبُوهَا ‌فِي ‌الْوِتْرِ ‌مِنْهَا).

وقد اعتاد الناس في الأعوام الأخيرة الاجتهاد في ترقب تلك العلامة الظاهرة وادعاء رؤيتها والاختلاف عليها بين ليالي العشر الأواخر من رمضان، ونشر ذلك على وسائل الاتصال المختلفة، وينبغي الحذر من ذلك -حتى وإن صح رؤية ذلك-؛ لما في نشر ذلك من تثبيط همم الكثيرين عن الاجتهاد في الطاعات باقي ليالي الشهر والتراخي في تحصيل الثواب فيها، وهو خلاف مراد الشرع من عدم التصريح والتعيين لليلة القدر، وهو الاجتهاد في كل ليالي العشر.

ويمكن الإخبار بذلك لمن كان لا بد فاعلًا بعد انتهاء شهر رمضان وزوال خشية التراخي في الاجتهاد في العبادة باقي ليالي الشهر.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف لو عينت لاقتصر عليها".

قال ابن رجب -رحمه الله-: "إن إيهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله -أو أوتاره- في طلبها فيكون سببًا لشدة الاجتهاد وكثرته".

مخالفات وبدع تقع في ليلة القدر:

- الاعتقادات الباطلة حول ليلة القدر: كزعم أن الكلاب لا تنبح فيها، أو أن السماء لا بد أن تمطر، أو أن هناك طاقة من نور تظهر في السماء!

- الانشغال عن الاجتهاد في الطاعة تلك الليلة بالاحتفالات الرسمية والشعبية، كما يحدث في الموالد والمواسم الأخرى، والاجتماع لها بإقامة السرادقات والزينات، وما يصحبها من الإنشاد الديني والتواشيح، وإلقاء القصائد والأشعار والكلمات! وهذا كله يخالف هدي وعمل السَّلَف الصالح على ما فيها من رياء ومشغلة للوقت عما هو أولى وأهم.

قال الشيخ علي محفوظ -رحمه الله- عن بدع ليلة القدر: (إحياؤها بغير ما رغَّب الشرع فيه من إيقاد المنارات، وغيرها، وكثرة الوقود في المساجد، إلى غير ذلك مما لا فائدة فيه ولا غرض صحيح) (راجع الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ - ط. دار البيان العربي - القاهرة. ط. أولى، ص 275).

دعاء القنوت:

جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عَلَّم سبطه الحسن بن علي -رضي الله عنهما- دعاء القنوت في الوتر، ونصه: (اللَّهُمَّ ‌اهْدِنِي ‌فِيمَنْ ‌هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وقد ثبت دعاء القنوت في صلاة الوتر عن جماعة من الصحابة، وورد أن القنوت كان في عهد خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في النصف الثاني من رمضان يُزَاد فيه: "اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألقِ في قلوبهم الرعب، وألقِ عليهم رجزك وعذابك إله الحق"، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو ويستغفر للمسلمين، فإذا فرغ قال: "اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد -أي: نسرع-، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك لمن عاديت ملحق"، ثم يكبر ويهوي ساجدًا (راجع رسالة: قيام رمضان، للألباني ط. الدار السلفية - الكويت).

ومن كمال القبول والاستفادة من دعاء القنوت في الوتر استحضار ما في هذا الدعاء من معاني جليلة:

- ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ ‌اهْدِنِي ‌فِيمَنْ ‌هَدَيْتَ)، الهداية على نوعين:

- هداية العلم أو هداية البيان والإرشاد: ومنها قوله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَإِنَّكَ ‌لَتَهْدِي ‌إِلَى ‌صِرَاطٍ ‌مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).

- هداية العمل أو هداية التوفيق والإسعاد: ومنها قوله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (‌إِنَّكَ ‌لَا ‌تَهْدِي ‌مَنْ ‌أَحْبَبْتَ) (القصص: 56).

وهنا في هذا الدعاء طلب الهدايتين من الله -تعالى-، كما في قولنا في سورة الفاتحة التي تقرأ في كل ركعة في الصلاة: (‌اهْدِنَا ‌الصِّرَاطَ ‌الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

وهذا السؤال مصحوبًا بالتوسل بنعم الله -تعالى- على مَن هداه أن ينعم علينا نحن أيضًا بهذه الهداية، والمعنى: إننا نسألك الهداية، فإن ذلك من مقتضى رحمتك وحكمتك، ومن سابق فضلك، فإنك قد هديت أناسًا آخرين، فاهدنا فيمن هديت.

- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ)، المعافاة: معافاة من أمراض البدن العضوية المعروفة، ومعافاة من أمراض القلوب.

وأمراض القلوب على نوعين:

- أمراض الشهوات: ومنشؤها الهوى، فيعرف العبد الحق لكن لا يريده -عياذا بالله-، فيكون هواه مخالفًا لكل أو بعض ما جاء به شرع الله -عز وجل-.

- أمراض الشبهات: ومنشؤها الجهل، ونقص تعلم العلم الواجب النافع، فيعتقد الجهل ويفعل الباطل يظنه الحق.

- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت)، الولاية من الله -تعالى- على نوعين:

- الولاية الخاصة: وتكون للمؤمنين خاصة، فنحن نسأل الله -تعالى- الولاية الخاصة، والتي تقتضي العناية بمَن ولاه الله -عز وجل-، وتقتضي التوفيق والنصرة، قال -تعالى-: (‌اللَّهُ ‌وَلِيُّ ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة: 257)، وقال -تعالى-: (‌إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌اللَّهُ ‌وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة: 55).

- والولاية العامة: وهي عامة لكل الخلق، للمؤمنين وغيرهم، كما في عموم قوله -تعالى-: (‌ثُمَّ ‌رُدُّوا ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌مَوْلَاهُمُ ‌الْحَقِّ) (الأنعام: 62).

- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَبَارِكْ لِي)، البركة: الخير الكثير المستقر، من (البِرْكة) بكسر الباء وسكون الراء: مجمع الماء الكثير الثابت.

(فِيمَا أَعْطَيْتَ): من الولد والمال والعلم، أي: من كل شيء.

وطلب البركة مطلوب، فمن الناس من عنده مال، ولكن لا يبارك له فيه، فيكون فيه بخل وتقتير وشح، ومنع حقوق الناس. ومن الناس من عنده علم، ولكن لا يظهر عليه أثر العلم في عباداته وأخلاقه وسلوكه، فيكون معه كبر وعلو، ولا ينتفع أحدٌ بعلمه؛ لا بتدريس، ولا توجيه.

 - وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ) أي: الذي قضيت، فـ(مَا) اسم موصول، والله -تعالى- يقضي بالخير ويقضي بالشر. والقضاء بالخير: خير محض في القضاء والمقضي، مِن: رزق واسع، وهداية ونصرة. والقضاء بالشر: هو خير في القضاء، وشر في المقضي، قال -تعالى-: (‌ظَهَرَ ‌الْفَسَادُ ‌فِي ‌الْبَرِّ ‌وَالْبَحْرِ ‌بِمَا ‌كَسَبَتْ ‌أَيْدِي ‌النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)؛ فلهذا القضاء غاية محمودة، وهي الرجوع إلى الله -تعالى- من معصيته إلى طاعته، فصار المقضي شرًّا، وصار القضاء خيرًا.

- (فَإِنَّكَ تَقْضِي) أي: فالله -تعالى- يقضي كل شيء؛ لأن له الحكم التام الشامل.

(وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ) أي: لا يقضي عليه أحدٌ، فالعباد لا يحكمون على الله، والله يحكم عليهم، والعباد يسألون عما عملوا، وهو -سبحانه- (‌لَا ‌يُسْأَلُ ‌عَمَّا ‌يَفْعَلُ ‌وَهُمْ ‌يُسْأَلُونَ) (الأنبياء: 23).

- وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ): هذا تعليل لما سبق من الدعاء: (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ)، فإذا تَوَلَّى الله -سبحانه- العبد؛ فإنه لا يذل، وإذا عادى الله العبد فلا يعز. ومعنى ذلك: أننا نطلب العز من الله، ونتقي من الذل بالله -عز وجل-. (للاستزادة راجع رسالة شرح دعاء القنوت، للشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-).

ومن السُّنة أن يقول المصلي إذا سَلَّم من الوتر: (‌سُبْحَانَ ‌الْمَلِكِ ‌الْقُدُّوسِ) (ثلاثا)، ويمد بها صوته، ويرفعه في الثالثة. (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ومن السُّنة أن يقول العبد في آخر وتره بعد السلام: (اللَّهُمَّ ‌إِنِّي ‌أَعُوذُ ‌بِرِضَاكَ ‌مِنْ ‌سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).