الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 15 ديسمبر 2022 - 21 جمادى الأولى 1444هـ

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين التصريح والتعريض (1)

كتبه/ كريم صديق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أخذ التعريض في كلام النبي -صلوات الله عليه- أشكالًا يمكن تمييزها بحسب الدافع إليه ، فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم، قال تعالى : (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة: 235)، فنهت الآية عن التصريح بالزواج للمرأة التي توفي عنها زوجها وهي ما تزال في عدتها، وأباحت التعريض الذي هو ضد التصريح.

والنبي -صلوات الله عليه- قد استعمل هذا النوع من التعريض في زواجه من أم المؤمنين أم سلمة، فنراه يعرض الأمر عرضًا لطيفًا لا يخدش حياءه ولا حياء مَن يخاطب، فيقول لها: "لَقَدْ عَلِمْتِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ، وَمَوْضِعِي فِي قَوْمِي" (أخرجه الدارقطني وسنده منقطع)، فكان هذا تعريضًا برغبته في الزواج منها.

ونراه يعرّض في أمر الزواج أيضًا، وهو يريد أن يختار للمرأة المتأيمة زوجًا يصلح لها، قال القرطبي -رحمه الله-: "ومِن أَعْظَمِهِ قُرْبًا إِلَى التَّصْرِيحِ: قَوْلُ النَّبِيِّ -صلوات الله عليه- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ وَلَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ"،  فقوله: " تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ" إشارة لطيفة إلى أن يكون زواجها بعد أخذ مشورته من غير تصريح بأمر الزواج.

ومن التعريض ما كان دافعه ومبعثه حياء النبي -صلوات الله عليه- الشديد؛ فقد كان كما أخبر عنه أصحابه: "أشَدّ حَياء مَنَ العَذْراءِ في خِدرِها" (متفق عليه).

فنراه يلجأ للتعريض فيما يخص أمور النساء، فيبين الحكم في إلماح لطيف يغني عن التصريح، فيقول لمستفتية تسأل عن غسل الجنابة ما يفي بالمعنى من غير تصريح بما يخدش الحياء، فعن عائشة -رضوان الله عليها-: أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ، فَقَالَ: (تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا، فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ. ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا). فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! تَطَهَّرِينَ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ: تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: (تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا، فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ). فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ‌نِعْمَ ‌النِّسَاءُ ‌نِسَاءُ ‌الْأَنْصَارِ ‌لَمْ ‌يَكُنْ ‌يَمْنَعُهُنَّ ‌الْحَيَاءُ ‌أَنْ ‌يَتَفَقَّهْنَ ‌فِي ‌الدِّينِ. (متفق عليه).

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: (سُبْحَانَ اللهِ!) مشعر بما اعتراه من خجل يمنعه من التصريح بأكثر من ذلك بشأن هذه السائلة التي تستفتي في أمورٍ تخص النساء، وهذا نظير ما ذكره المفسِّرون في تفسير قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) (الأحزاب: 53).

قال القرطبي -رحمه الله-: "سَبَبَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلوات الله عليه- لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ امْرَأَةَ زَيْدٍ أَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَدَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا جَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلوات الله عليه-  وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةً وَجْهَهَا إِلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلوات الله عليه-، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا أَدْرِي: أَأَنَا أَخْبَرْتُ النَّبِيَّ -صلوات الله عليه- أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ خَرَجُوا أَوْ أَخْبَرَنِي".

فالنبي -صلوات الله عليه- بما كان عليه من حياء لم يصرِّح بما ينبغي أن يفعله هؤلاء الذين طعموا طعام الوليمة، ثم استرسلوا في الحديث غير مراعين الموقف، فاستحيا النبي أن يأمرهم بالانصراف وهم في بيته، فنزلت الآيات الكريمات تأمر الضيف بالمغادرة إذا كان قد قَضَى مأربه من الزيارة، وحصَّل المقصود منها؛ فلا حاجة للحديث في شئون لا تخص أرباب المنزل في شيء.

وللحديث بقية إن شاء الله.