الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 13 نوفمبر 2022 - 19 ربيع الثاني 1444هـ

وقفات مع سورة الكهف (10)

كتبه/ خالد آل رحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فنواصل الحديث عن سورة الكهف، ونبدأ بقوله تعالى: (‌وَقُلِ ‌الْحَقُّ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف: 29).

فقوله تعالى: (‌وَقُلِ ‌الْحَقُّ ‌مِنْ ‌رَبِّكُمْ) أي: قل لهم ولغيرهم؛ لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس، الحق من ربكم، ومنه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا؛ ولذلك قال تعالى (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)، وهذا على سبيل التهديد وليس على سبيل الاختيار، ولتعلموا: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا) أي: هيئنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جدًّا، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير. ولفظ: (أَعْتَدْنَا) يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيئة للاستقبال.

قال ابن عاشور رحمه الله: "وتنوين (نَارًا) للتهويل والتعظيم" (انتهى).

ثم شرع المولى تعالى في وصف تلك النار المُعدة سلفًا، فقال: (أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) أي: حائطها الذي يُدار حولها كما يُدار حول الخيمة من جميع الجوانب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حائط من نار". وقال السعدي رحمه الله: "سورها المحيط بها؛ فليس لهم منفذ ولا طريق، ولا مخلص منها" (انتهى).

وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سُرادق النار أربعة جدران كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة"، وبعد ذلك شرع المولى تعالى في ذكر شرابهم، فقال: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا) أي: مِن حر النار، فيطلبوا الغيث، وهو ماء المطر والغوث بإحضاره لهم، (يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ)، فهم يغاثون، ولكن ليس بماء مثل الذي يحيي الأرض بعد صيرورتها جرزًا، بل هو (كَالْمُهْلِ)، وهو القطران الرقيق، وما ذاب من صفر أو حديد، أو الزيت أو درديه. وقيل: هو كل ما أُذيب بالنار من معادن الأرض من حديد ورصاص ونحاس. وقيل: هو عكر الزيت. قال الضحاك: "ماء جهنم أسود، وهي سوداء وشجرها أسود، وأهلها سود" (انتهى).

ولتبيكتهم سُمي أعلى أنواع العذاب إغاثة، والإغاثة هي الإنقاذ من العذاب، وهذا الماء (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي: إذا قرب من الفم؛ فكيف بالفم أو الجوف؟!

قال ابن كثير رحمه الله: "من حره إذا أراد الكافر أن يشربه وقرَّبه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه!" (انتهى)؛ ولذلك عقب تعالى بقوله: (بِئْسَ الشَّرَابُ)؛ لأنه أسود منتن غليظ حار وعطف عليه ذم النار المعدة لهم، فقال تعالى: (وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) قال ابن عباس رضي الله عنهما: منزلًا. وقال مجاهد: مجتمعًا، وقال عطاء: مقرًّا. وقال القتيبي: مجلسًا.

قال ابن عاشور رحمه الله: "وأصل المرتفق: المتكأ، وشأن المرتفق أن يكون مكان استراحة؛ فإطلاق ذلك على النار تهكم" (انتهى).

ومن خلال هذه الآيات، أعلم تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث حقائق كبرى، لها أثر عظيم في حياة البشرية على مدار التاريخ:

الأولى: أن الحق الذي لا باطل فيه هو الذي جاء من عند الله، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ).

الثانية: أن الإنسان له كامل الحرية في اختيار الدين، (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ).

الثالثة: أن الإنسان الذي يختار الكفر بإرادته؛ عليه أن يتحمل عاقبة كفره، (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا).   

وإلى لقاء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.