الأيام من 14 إلى 17 رمضان - 10 إلى 13 أكتوبر
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.
كانت الساعات الست الأولى من حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر كافية؛ لأن يفقد العدو الإسرائيلي توازنه العسكري، ومِن ثَمَّ تَعَلُّق آماله بدفع قواته الاحتياطية بعد اكتمال تعبئتها يوم 8 أكتوبر لتحقيق التوازن العسكري الذي تتمناه، وهو ما فشلت فيه أيضًا؛ كانت الأيام الأربعة من الأولى من الحرب كافية لأن تتيقن القيادات العسكرية الإسرائيلية أنها غير قادرة وحدها على مواجهة الجيش المصري، وحتمية التدخل الأمريكي المباشر لنجدة ودعم إسرائيل عسكريًّا قبل فوات الأوان، وهو ما لم تتردد الولايات المتحدة في القيام به استجابة لاستغاثة الحكومة الإسرائيلية وإلحاحها في طلب الدعم الأمريكي العسكري السريع من خلال أطول وأكبر جسر جوي في التاريخ الحديث لنقل الطائرات والمدرعات والصواريخ، وسائر أنواع السلاح الحديثة الموجودة في الترسانة الأمريكية تزامنًا مع جسر آخر بحري.
ومن هنا كانت أيام الحرب من 14 إلى 17 رمضان التي وافقت الأيام من 10 إلى 13 أكتوبر بداية مرحلة إستراتيجية جديدة للعدو الإسرائيلي تزامنت مع تعيين الجنرال بارليف -الذي تسمَّى باسمه خط بارليف المنيع- قائدًا جديدًا لجبهة القتال الجنوبية في سيناء، وتزامنت مع بداية الموافقة الأمريكية على دعم إسرائيل عسكريًّا بقوة.
وكانت الرؤية الجديدة للقيادة العسكرية للعدو في هذه الفترة تقوم على:
- تثبيت الموقف في الجبهة المصرية بنفس القوات الإسرائيلية الموجودة، ودعمها بأكبر قدر من الإمكانات التي يوفرها الدعم العسكري المنتظر.
- وضع خطة لاختراق الجيش المصري لإحداث توازن مقبول سياسيًّا.
وهذه الإستراتيجية الجديدة تعد التنفيذ العملي لما قاله وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر للسفير الإسرائيلي في أمريكا ونقله للقادة في إسرائيل طبقًا لما جاء في الصفحة 345 من الطبعة العربية لمذكرات وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر، والتي قال فيها للسفير الإسرائيلي: (طالما إسرائيل اطمأنت لإعادة إمدادها؛ فإنها ليست في حاجة للاحتفاظ باحتياطاتها، وليست في نفس الوقت مضطرة لإجراء مناورات معقدة... كل ما يهم إسرائيل الآن العودة إلى خطوط ما قبل الحرب بأسرع ما يمكن أو تتجاوزها في إحدى الجبهتين -أي: الجبهتين السورية والمصرية- فنحن -أي: أمريكا- لا نستطيع تأجيل تقديم الاقتراح إلى مجلس الأمن بوقف إطلاق النار وقتًا طويلًا).
لقد حرصت أمريكا طوال الأيام الأولى للحرب والتي أظهرت التفوق المصري الكاسح واستيلاء المصريين على قناة السويس والتوغل في عمق سيناء، على تعطيل ومنع صدور أي قرار متوقع من مجلس الأمن -الذي تتحكم أمريكا في زمامه- يطالب بوقف إطلاق النار؛ إذ ليس هذا في مصلحة إسرائيل المهزومة التي تحطم خط دفاعها الأول عند قناة السويس، وباتت تتراجع داخل سيناء، وذلك في انتظار تحقيق الجيش الإسرائيلي لقدر من التوازن العسكري أو تحقيق انتصار ولو محدود يمكن البناء السياسي عليه عند وقف إطلاق النار، وهو الطريق الوحيد الآن الذي يجب على إسرائيل أن تسلكه لإنقاذ إسرائيل مما تردت فيه مهما كان الثمن.
وخلال تلك الأيام كانت القوات المصرية قد استكملت سيطرتها على مجرى الأمور؛ خاصة بعد أن هدأت وقلت هجمات العدو المضادة إذ صارت هجمات العدو الكبيرة محدودة، وتهدف إلى تثبيت القوات المصرية وإحداث أكبر قدر من الخسائر بها، وهي الهجمات التي تم التصدي لها بالكامل، مع قيام الجيشين: الثاني والثالث في هذه المرحلة بتوسيع وتوحيد رؤوس الكباري، وكذلك الاستيلاء على أراضٍ جديدة؛ سواء كانت أراضي حيوية كان يسيطر من العدو وأُجبِر على الانسحاب منها والتخلي عنها، أو أراضي احتلتها قواتنا قبل وصول قوات العدو إليها.
في يوم 10 أكتوبر تم في قطاع الجيش الثالث:
- الاستيلاء على جبل المر بعد معارك طويلة حسمتها قواتنا.
- الاستيلاء على مركز قيادة العدو ومنطقة إمداد رئيسية في (متلا).
- اقتحام اللواء الأول مشاة ميكانيكي موقع (عيون موسى) الحصين في خط بارليف.
وفي قطاع الجيش الثاني:
وقع صراع عنيف بين الفرقة الثانية مشاة المصرية والفرقة 162 مدرعة إسرائيلية من أجل السيطرة على موقع (الكونتور 100) الذي يقع على بعد 16 كم داخل سيناء شرق القناة شمال شرق الإسماعيلية، والذي لما استولت عليه القوات المصرية لجأ العدو إلى الإبرار الجوي بقوات مظليين إسرائيليين بواسطة طائرات الهليكوبتر على أن تلحق بهم قوات أخرى من المشاة الميكانيكي، فنزل المظليون في مدى نيران القوات المصرية فأوقعت القوات المصرية بهم خسائر جسيمة، وسرعان ما تكرر الأمر مع قوات المشاة الميكانيكي الإسرائيلي.
وفي بورسعيد:
بعد أن أصاب العدو في غاراته على بورسعيد في يومي: 8 و9 أكتوبر بعض كتائب صواريخ الدفاع الجوي بأعطال، أراد استثمار ذلك بهجمات جديدة في يوم 10 أكتوبر، وضرب أهدافًا مدنية في بورسعيد، فكانت المفاجأة التي لم تخطر على بال العدو أن الأعطال تم إصلاحها وتم كذلك دعمها بكتائب الصواريخ جديدة، وتساقطت الطائرات الإسرائيلية، ومن بعدها توقف الطيران الإسرائيلي عن الهجوم على بورسعيد.
وفي يوم 12 أكتوبر:
- حاول العدو إبعاد قواتنا عن مواقعها الدفاعية التي أقامتها في الأراضي التي استولت عليها، فدفع بمئات الدبابات والمدرعات في القطاعات الثلاث للجبهة منذ صباح اليوم، ودارت معارك طاحنة طوال اليوم، شن خلالها طيران العدو غارات جوية عنيفة، وكانت الخسائر في الجانبين كبيرة، لكنها في جانب العدو كانت أكبر، حيث أسقطت المقاتلات المصرية أربع طائرات فانتوم وميراج، وأسقطت الصواريخ المصرية خمس طائرات غرب الإسماعيلية وفايد والقنطرة غرب، وأسقطت أربع طائرات أخرى عندما أغار العدو على إحدى قواعدنا الجوية شرق الدلتا.
وبعد الظهر تم تدمير سبع طائرات للعدو فوق قناة السويس، وطائرة أخرى في منطقة سدر على الضفة الشرقية لخليج السويس؛ هذا كله بخلاف الطائرات التي عادت مصابة إلى أرض العدو في سيناء.
ولقد أكدت هذه المعارك أن القوات المصرية أصبح لها عدة خطوط دفاع قوية في سيناء، فهناك خط الدفاع الأول على الضفة الشرقية للقناة، وهناك خط خلفي غرب القناة، وهناك دفاعات جوية قوية لمواجهة الغارات الجوية للعدو.
- وفي مساء هذا اليوم كان مقتل إبراهام مندلر قائد المدرعات الإسرائيلية، والملقب بالرجل الحديدي، والذي لم يمضِ على تعيينه قائدًا لعمليات القطاع الجنوبي أكثر من 72 ساعة، وكان القائد الإسرائيلي يسعى للانتقام من القوات المصرية لما أصاب قواته المدرعة من خسائر فادحة، ومنها: تدمير اللواء المدرع الإسرائيلي 190؛ لذا كان يتنقل في سرعة مزهوًا بالأعداد الكبيرة التي يشرف عليها من الدبابات والمدرعات التي توالت عليه في هذا اليوم لخوض المعارك المتصاعدة في المنطقة الجنوبية، ونجحت القوات المصرية في رصد حركة الرجل، وفي اللحظة المناسبة انطلقت قذائف المدفعية لتصيب الأولى منها مصفحة مندلر فتحولها إلى أجزاء مبعثرة تشتعل في بقاياها النيران.
وقد سجلت قواتنا آخر حديث دار بين مندلر قبل مصرعه وبين (جونين) قائد الجبهة الذي كان داخل طائرة هليكوبتر بالقرب من المنطقة؛ حيث دعاه للاستعداد لعقد اجتماع عاجل ... غير أن الحديث توقف فجأة بعد أن صمت لاسلكي مندلر الذي تحول إلى رماد.
- قامت الفرقة 16 التي يقودها العقيد عبد رب النبي حافظ بغارة ليلية استولت فيها على النقطة 141، وهي نقطة تدافع عنها سريتان من مدرعات العدو، حيث تقدمت أطقم من قناصة كتيبة مشاة سيرًا على الأقدام ليلًا في خفية، وفي شجاعة نادرة حتى وصلت إلى موقع النقطة وتقدمت إلى أبعد نقطة داخل دفاعات العدو حيث أصبحت الدبابات الإسرائيلية في متناول صواريخهم ومرمى نيرانهم؛ فدمرت أغلب هذه الدبابات، فلم ينجُ منهم إلا مَن هرب تاركًا دبابته ومعداته.
وفي يوم الجمعة 12 أكتوبر:
- سجَّل عددٌ من القادة العسكريين المصريين في سيناء ظهور أسلحة أمريكية حديثة متطورة جدًّا، منها: صواريخ (أرض / أرض) جديدة مضادة للدبابات تطلق من مسافات بعيدة جدًّا، وتصيب أهدافها خلال المعارك الليلية بدقة شديدة، وهي أسلحة لم تكن في حيازة الجيش الإسرائيلي من قبل.
- بدأت قوات العدو المدرعة في هذا اليوم تغير من تكتيكاتها، فعند الحصار والضغط الشيد من جانب القوات المصرية؛ فإنها تنسحب دون الدخول في معركة مباشرة، ومع ذلك خسر العدو في هذا اليوم 13 دبابة في ثلاث معارك.
- ضربت المدفعية والدبابات المصرية طابورًا كبيرًا للعدو كان يتقدم تسانده الطائرات تجاه قواتنا، فدمر منها نحو 20 مدرعة.
- وقد نجح العدو في هذا اليوم في إصابة عددٍ من المعابر على القناة، وفي خلال ساعتين عادت المعابر كلها سليمة كما كانت، وكان هذا يتكرر مع غارات العدو على الجسور والمعابر؛ فإذا أعاد العدو غاراته ثانية وجد طياروه الجسور سليمة وقواتنا تعبر عليها من جديد.
- وفي الغردقة حاول العدو الإغارة على قواعدنا بضفادع بشرية في قارب، فتم رصد القارب وضربه والقبض على مَن تبقى من أفراده.
في يوم 13 أكتوبر:
كان استسلام الحصن الإسرائيلي المنيع الذي يقع شمال خليج السويس في مواجهة لسان بور توفيق، وذلك بعد حصار محكم بدأ من يوم 6 أكتوبر، وكان هذا الحصن الرهيب يكيل ضرباته لمدينتي: السويس وبور توفيق من بعد حرب يونيو 1967، فقام بتدمير مساجد ومستشفيات، ومدارس ومنازل كثيرة للمدنيين، وهذا هو الحصن رقم 30 الذي يسقط في أيدي قواتنا من جملة 31 حصنًا في خط بارليف.
- ركَّز طيران العدو طوال اليوم غاراته داخل سيناء، وابتعد عن الضفة الشرقية للقناة، ومع ذلك سقط له في ساحات المعارك 13 طائرة قاذفة ومقاتلة، وثلاث طائرات هليكوبتر.
- وقد قامت قواتنا بتعزيزات داخل سيناء وشرق القناة، كما زادت دعم قواتها الدفاعية حول الجسور الكبيرة.
- في التاسعة مساءً تم إذاعة البيان العسكري المصري رقم 34 وجاء فيه أنه: (في تمام الساعة الواحدة وخمس دقائق من بعد ظهر اليوم اخترقت مجالنا الجوي طائرتا استطلاع معاديتان من شمال بورسعيد، ووصلتا إلى نجع حمادي، ثم عادتا شمالًا في اتجاه القاهرة، ثم شرقًا إلى منطقة سيناء في اتجاه لبنان وسوريا، ثم اتجهتا ناحية الشمال الغربي فوق البحر الأبيض المتوسط).
وقد استغرقت هذه الدورة فوق الأراضي المصرية 25 دقيقة، وكانت الطائرتان على ارتفاع 25 كيلو مترًا، وتطيران بسرعة تماثل ثلاثة أضعاف سرعة الصوت، وقد اتضح أنهما من طراز الطائرات الأمريكية الحديثة.
ومن المعلوم: أن هذا النوع من الطائرات لا يمتلكه سوى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر هذه أول مرة يخترق فيها مجالنا الجوي هذا النوع من الطائرات.
الموقف في مصر:
اختلفت وجهات نظر القيادة العسكرية حول الخطوة التالية بعد نجاح قواتنا في تحقيق هدفها الإستراتيجي، وهو عبور القناة وإسقاط خط بارليف، والتوغل داخل سيناء بعمق 12- 15 كيلو متر:
- كانت هناك وجهة نظر ترى أنه يجب استغلال أوضاع العدو السيئة، والقيام وفي سرعة بتطوير الهجوم المصري لمواصلة التقدم إلى خط المضايق في العمق، وبالتالي عدم القيام بوقفة تعبوية في 9 أكتوبر أو بعده؛ إذ إن ذلك التوقف يعني تحول دفة المبادأة إلى العدو، وأنه حال تطوير الهجوم فلا خوف من تأثير طيران العدو على قواتنا التي ستتعدى بالتالي مظلة حماية صواريخ دفاعنا الجوي؛ إذ إن تأثير الطيران الإسرائيلي سيكون محدودًا؛ نظرًا لتقارب وتلاحم القوات المصرية والإسرائيلية في مسرح العمليات، وكان الفريق الجمسي متبنيًا لهذه الوجهة، وناقش فيها المشير أحمد إسماعيل، ولكنه وَجَد منه الحذر الشديد.
- وكانت هناك وجهة نظر مخالفة تمامًا ترى وجوب القيام بالوقفة التعبوية بعد نجاح الهدف الإستراتيجي للحرب؛ لأمورٍ، منها: تفوق القوات الجوية للعدو، والذي يمثِّل خطرًا كبيرًا على قواتنا حال تقدمها خارج غطاء صواريخ دفاعنا الجوي؛ خاصة وأن أعداد الصواريخ المتحركة (سام 6) لقواتنا قليلة، لا تكفي لتغطية قواتنا لو تقدَّمت خارج مظلة حائط الصواريخ، وبالتالي فتطوير الهجوم يجعل قواتنا فريسة لطيران العدو.
كما أن هذا التطوير سيتطلب استهلاك جزء من قواتنا الاحتياطية في غرب القناة في حين أن هناك لا محالة معركة متوقعة خلال أيام بعد نجاح إسرائيل في تثبيت القوات السورية في الجولان؛ وعليه فالمتوقع أن يصب العدو كل تركيزه على سيناء، وهذا يتطلب الاحتفاظ بكل قواتنا لمواجهة ذلك بخطة دفاعية قوية لكسر الهجوم الإسرائيلي المتوقع وتدميره مثلما حدث في صد الهجوم المضاد للعدو في 8 أكتوبر وتدميره، وبعدها يمكن النظر في التقدم حال تقهقر العدو للاستيلاء على خط المضايق، وهذه الوجهة كان يتبناها الفريق الشاذلي.
وكان الظاهر وقتها: أن العمليات العسكرية على الجبهة السورية قد هدأت، وأن زيادة العمليات العسكرية على الجبهة المصرية لن يخفف الضغط على الجبهة السورية أو يكون له مردود مؤثِّر عليها؛ إذ إن هناك انفصالًا بالفعل بين الجبهتين؛ فللعدو ثمانية لواءات مدرعة في سيناء؛ فليس هناك حاجة إلى سحب قوات من الجبهة السورية، أي: أن ما يحدث في سيناء صار لا يؤثر على ما وصلت إليه الأوضاع السورية في الجولان.
رفض تطوير الهجوم المصري في 9 و10 أكتوبر:
في حوار أجرته جريدة الأهرام في 13 نوفمبر 1973م مع المشير أحمد إسماعيل، ذكر المشير أن تطوير الهجوم ليس مجرد استغلال لفرصة مهما كانت؛ إذ إن له حسابات مركبة تتطلب حماية القوات ووضعها في ظروف مهيأة للقتال؛ لذا كان عليه ألا يغامر، كما أنه كان عليه الالتزام بالتخطيط المسبق الذي كان يتضمن القيام بوقفة تعبوية، وإعادة تقدير الموقف على ضوء ردود فعل قوات العدو، مع التأهب للخطوة التالية، علمًا بأن الوقفة التعبوية ليست فترة سكوت، لكنها فترة يكون فيها التصدي لأي هجمات مضادة للعدو.
أما بخصوص استئناف الهجوم الذي تم بعد ذلك في يوم 14 أكتوبر؛ فقد كان أمرًا اضطراريًّا تم بأسرع وقت، وكان هدفه تخفيف الضغط على الجبهة السورية (راجع في ذلك مقالة الكاتب إبراهيم حجازي: "عندما ظنوا أن عملية (القلب الشجاع) تنهي الحرب"، جريدة الأهرام عدد الجمعة 4 ديسمبر 2020 م، ص 15).
قال الكاتب إبراهيم حجازي: (تبقى ملاحظة لافتة للنظر، وهي: أن في هذا الوقت تحديدًا سنحت فرصة ثمينة للقيادة السياسية لإيقاف النيران، وقواتنا المسلحة في وضع مناسب تمامًا في سيناء، وأن وقف إطلاق النيران سوف يحقق توقف القوات الإسرائيلية على الجبهة السورية فيما لو كان القتال مستمرًا، وبذلك يتحقق الهدف الذي من أجله صدر قرار تطوير الهجوم) (المصدر السابق).
تطوير الهجوم في 14 أكتوبر كان قرارًا سياسيًّا:
- في يوم 11 أكتوبر جاء مندوب من القيادة السورية إلى القاهرة لشرح الموقف على الجبهة السورية، وطلب المندوب السوري تنشيط العمليات على جبهة سيناء؛ لخفض الضغط الإسرائيلي على الجولان، وفي نفس الوقت تلقَّى الرئيس "السادات" العديد من الاتصالات من قادة عرب وقادة دول صديقة من أجل مساعدة سوريا، وقد اضطر السادات تحت هذه الضغوط لاتخاذ قرار سياسي بإنهاء الوقفة التعبوية واستئناف الهجوم، وهو القرار الذي اختلفت حوله وجهات النظر كما سبق في 9 و10 أكتوبر.
- في ليلة 12 أكتوبر استقبل الرئيس السادات السفير السوفيتي حاملًا رسالة من قادة الكرملين يقترحون فيها -بعد موافقة مصر- أن تبادر يوغسلافيا باعتبارها إحدى دول عدم الانحياز بتقديم مشروع لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار في سيناء على الخطوط الحالية؛ خاصة وأن إنجلترا لديها أيضًا مبادرة تقديم مشروع بذلك، وهو ما رفضه السادات.
- بعد ظهر 12 أكتوبر صدرت التعليمات إلى قيادات الجيش المصري بالاستعداد لتطوير الهجوم صباح 13 أكتوبر، وفي مساء نفس اليوم تم عقد مؤتمر في القيادة العامة لمناقشة التغلب على بعض المشكلات التي ظهرت، وانتهى الأمر بتحديد الساعة السادسة والنصف صباح 14 أكتوبر لاستئناف الهجوم، وعليه بدأت إجراءات التحضير والتخطيط للهجوم.
الموقف في إسرائيل:
- كان استيلاء القوات المصرية على خط بارليف والتقدم 15 كم داخل سيناء يعني سيطرة مصر على القناة، وأنه في هذه الحالة فلا يوجد خط صالح للدفاع أمام العدو إلا عند المضايق، في نفس الوقت كان تثبيت أوضاع العمليات الحربية على جبهة الجولان لصالح القوات الإسرائيلية دافعًا لتعجل القيادات الإسرائيلية لإحداث تغيير للأوضاع في سيناء، فكان تركيز العدو على زيادة التخطيط تجاه الجبهة المصرية.
وكانت إسرائيل متخوفة من قدرة وقوة القوات المصرية، ولكنها تسعى إلى تغيير الأوضاع بما يؤدي إلى توازن عسكري يمكن معه تقديم حلول تفيد إسرائيل سياسيًّا عند وقف إطلاق النار؛ كانت هنا خطة إسرائيلية قديمة من الحروب السابقة تعرف بـ(العملية غزالة)؛ خلاصتها: إحداث ثغرة من أحد أجناب قوات العدو والالتفاف من حولها، وتطبيق هذه الخطة في هذا الوقت يتطلب إحداث ثغرة في أحد جانبي الجيش المصري والوصول عن طريقها إلى غرب القناة، ثم الالتفاف خلف الجيش المصري، وبالتالي إيجاد موقف أفضل للعدو الإسرائيلي يمكنه معه تقديم شروطه أو طلب تنازلات لصالحه عند وقف إطلاق النار، وعرفت هذه الخطة باسم: (أبيراي هاليف: أي: القلب الشجاع)، لكن كانت العقبة الكبرى أمام هذه الخطة الإسرائيلية هي وجود فرقتين مدرعتين مصريتين غرب القناة تتمتعان بحماية حائط الصواريخ المصري، ويمكنهما تدمير أي قوات إسرائيلية تنجح في العبور لغرب القناة.
- في مساء 12 أكتوبر اجتمع مجلس الحرب الإسرائيلي لمناقشة اتخاذ مجلس الأمن قرار بوقف إطلاق النار، ولمناقشة خطة إحداث ثغرة في الجيش المصري، وأثناء الاجتماع جاءت برقية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية فيها تقرير يحتوي عما ما قامت به طائرة تجسس أمريكية أقلعت من قاعدتها في أوروبا واخترقت المجال الجوي المصري وهي تطير على ارتفاع 25 كيلو متر، حيث قامت باستطلاع ومسح تام لمسرح العمليات من بورسعيد إلى السويس إلى البحر الأحمر، والصعيد والدلتا، ثم عادت إلى قاعدتها، وأن نتيجة الاستطلاع تفيد بأن الفرقتين المدرعتين المصريتين الموجودتين غرب القناة بدأتا التحرك والعبور إلى شرق القناة -وذلك ما يتطلبه تطوير الهجوم المصري- بما يعني زوال خطرهما على القوات الإسرائيلية إذا عبرت القناة.
- في ليلة 12 أكتوبر أرسلت جولدا رسالة إلى كيسنجر تفوضه فيها أن يتقدَّم بمشروع قرار لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار على أن يكون القرار بعد 24 ساعة.
- في فجر 13 أكتوبر طلب السفير البريطاني مقابلة عاجلة مع الرئيس السادات أبلغه فيها أن كيسنجر طلب من رئيس وزراء بريطانيا التأكد من أن الرئيس السادات يوافق على وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية، وأن أمريكا لن تعترض على ذلك.
وقد رفض السادات وقتها هذا الاقتراح، وهذا يبيِّن كيف كانت إسرائيل تخطط للهجوم على القوات المصرية وإحداث ثغرة للعبور إلى غرب القناة، وهي في الوقت نفسه تطلب من أمريكا السعي عن طريق مجلس الأمن إلى إصدار قرار بوقف إطلاق النار.
وللحديث بقية إن شاء الله.