معركة (تبة الشجرة) كما رواها أبطالها (1)
كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبعد مضي نصف قرن هجري من الزمان على حرب العاشر من رمضان 1393 إلى رمضان 1443 هـ - السادس من أكتوبر، رَحَل -أو يكاد- مَن حضروا هذه الحرب أو عاصروها؛ فلزم علينا أن نذكِّر الأجيال الجديدة بهذه الحرب المجيدة، وما قدَّم المصريون فيها مِن تضحياتٍ، وما بذلوه من جدٍّ واجتهاد في قوة تحمُّل وصبر، وإخلاص وصدق حقَّقوا به مجدًا كبيرًا في ظروف أسوأ وأصعب بكثيرٍ مِن الظروف التي نعاني منها حاليًا؛ إنها روح العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر التي نفتقدها الآن، ونحن أحوج ما نكون إليها.
تضمنت أيام حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر بضع وستين معركة بين القوات المصرية والقوات الإسرائيلية، تخطت القوات المصرية النصر في خمسين معركة منها، بنسبة انتصارات نحو 80 % من المعارك التي وقعت.
وكل معركة من هذه المعارك وراءها قصص بطولية من المقاتلين المصريين وتضحيات؛ سواء على مستوى الأداء الجماعي أو على المستوى الفردي، وكلها جديرة بأن تروى للأجيال والأحفاد لنستلهم منها روح البذل والعطاء، والعمل الجاد، والأداء الجماعي العالي في أحلك الظروف وأصعب المواقف.
ومن هذه المعارك المهمة المؤثرة التي شهدتها حرب العاشر من رمضان: معركة (تبة الشجرة) التي وقعت أحداثها في يوم الاثنين الثاني عشر من رمضان - الثامن من أكتوبر؛ اليوم الذي كانت تنتظره قيادات الجيش الإسرائيلي بعد انتهاء استدعاء قوات الاحتياط كاملة للقيام بالهجوم المضاد الكاسح المنتظر، وإعادة القوات المصرية من حيث أتت إلى الضفة الغربية للقناة، ولم يكن هناك شك لدى القيادات في إسرائيل ولدى حلفائها في قدرة القوات الإسرائيلية بعد اكتمال عددها وعتادها على تحقيق النصر الكاسح؛ مهما بلغت مقاومة المصريين وصمودهم أمام الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
جاءت معركة تبة الشجرة مباشرة في أعقاب الفشل المروع للهجوم الإسرائيلي الرئيسي المضاد على المحور الأوسط، والذي منيت القوات الإسرائيلية فيه بخسائر فادحة في المدرعات غير متوقعة، جعل هذا اليوم يُطلَق عليه في مذكرات العسكريين والسياسيين وفي الأدبيات الإسرائيلية (يوم الاثنين الحزين)، والذي أتبعت فيه القوات المصرية هذا الهجوم الإسرائيلي المضاد الفاشل بهجوم مضاد مفاجئ على تبة الشجرة حيث مركز قيادة العدو المنيع في المحور الأوسط؛ فاقتحمته الكتيبة 12 مشاة، واستولت عليه في فترة زمنية وجيزة لا تتناسب إطلاقًا مع قوة تحصين هذا الموقع وأهميته العسكرية، والتي تؤهله للصمود في أصعب الظروف أيامًا كثيرة.
وقد تحوَّل هذا الموقع بعد نهاية الحرب إلى مزار تاريخي سياحي ثقافي تتوجَّه إليه الرحلات قادمة من الإسماعيلية لمشاهدة أثرًا تاريخيًّا تذكاريًّا شاهدًا على مرور السنين على بطولات قواتنا المسلحة التي قامت بها في حرب العاشر من رمضان، والاستماع إلى شرح مفصل لوقائع تلك المعركة كما رواها أبطالها الذين حضروها، ومطالعة ما احتوته غرفة القيادة وغرفة عمليات مركز القيادة الإسرائيلي من خرائط ووثائق تم العثور عليها فيه، وقد ألحق بالمكان أيضًا معرض يضم كل متروكات العدو من العتاد والأسلحة والألغام التي استولى عليها المصريون من قوات العدو خلال أحداث هذه المعركة.
تقع تبة الشجرة داخل سيناء على بعد 10 كيلومتر من شمال الإسماعيلية، وعلى بعد 750 مترًا شمال طريق المحور الأوسط بسيناء، وترتفع عن سطح البحر بنحو 74 مترًا؛ مما يتح لها بسهولة وبيسر كشف المنطقة الواقعة أمامها ويمكنها من ملاحظة كافة التحركات حتى الضفة الغربية للقناة، ابتداءً من (البلاح) شمالًا وحتى (الدفرسوار) جنوبًا.
ولموقع تبة الشجرة نقطتان حصينتان متماثلتان في المساحة والتخطيط، وعدد الحجرات والقاعات الداخلية، والمداخل والمخارج، وفتحات الهروب ومتصلتان ببعضهما عن طريق أنفاق محصنة يفصِّل بينهما حوالي 250 متر مليئة بالألغام.
وتضم النقطة الحصينة الأولى مقر القيادة وغرفة العمليات المزودة بالأجهزة المخصصة للاتصال بالوحدات العسكرية الأخرى والقيادات الفرعية، وقيادة الجبهة الجنوبية والقيادة العامة، وبها أجهزة ومعدات إلكترونية، بينما تضم النقطة الحصينة الثانية المخصصة للعمل الإداري مكتبًا للقائد، وأماكن مبيت للأفراد، وصالة للطعام، ووحدة طبية، ونقطة وقود، ومغسلة.
وتتكون كل نقطة من ملجأ مستطيل الشكل، مبني من كتل خراسانية سابقة التجهيز، وقد ملئت الفواصل بينها بمادة مطاطية لامتصاص أي ضغوط تنجم عن أي قصف خارجي.
والمبنى أسفل سطح الأرض، وله فتحتان مائلتان إلى أسفل في الطرفين من الجانب الشرقي، إحداهما للدخول إلى شمال المبنى، والأخرى للخروج إلى الجنوب، وفي منتصف المسافة بين الممرين المتصلين بفتحتي الدخول والخروج، يوجد تجويف يؤدي إلى فتحة للهروب عن طريق سلم معدني يؤدي إلى سطح النقطة الحصينة في حالة حدوث محاولة اقتحام للنقطة من بابيها الرئيسيين.
كما تم تحصين المبنى الخرساني من أعلى بقضبان من السكك الحديدية يعلوها سلال الحجر الجيري الذي تم اختياره بدلًا من الصخور الصلبة لتفادي تطاير الشظايا التي تنتج عن عمليات القصف حيث تتفتت الأجزاء المعرضة للقصف من الحجر الجيري في مكانها.
وقد أخذ الموقع اسمه من اسم شجرة (الجزورينا) التي تعلو هذا الموقع منذ القِدَم، واشتهرت التبة باسمها بين بدو سيناء، ومِن ثَمَّ سُجِّلت بهذا الاسم في الخرائط والسجلات العسكرية.
وقد سقط الموقع أثناء حرب العاشر من رمضان في يوم الاثنين الثاني عشر من رمضان - الثامن من أكتوبر حيث كلفت إحدى كتائب المشاة بالاستيلاء على موقع تبة الشجرة حيث استطاعت الكتيبة حسم المعركة خلال نصف ساعة تقريبًا، والاستيلاء على أسلحة ومعدات الموقع، وهي في حالة صالحة للاستخدام، وتم أسر 50 % من قوة سرية المشاة المدعمة للجانب الإسرائيلي التي كان قوامها 150 إسرائيليًّا.
وقد حاول العدو في اليوم التالي (يوم الثالث عشر من رمضان - التاسع من أكتوبر) استعادة هذا الموقع بعد القيام بتمهيد نيراني من المدفعية وبقصف من القوات الجوية، ثم الدفع بكتيبة من الدبابات، ولكنه فشل في تحقيق هدفه وتحَّمل خسائر إضافية جديدة في قواته.
وقد ذكر ثلاثة من أبطال الكتيبة 12 مشاة التي حررت نقطة تبة الشجرة قصة كيفية الاستيلاء على هذه النقطة الحصينة كما حضروها وشاركوا فيها، وهم:
- قائد الكتيبة وقتها: المقدم رجب عبد الرحمن عثمان.
قائدة السرية الأولى مشاة وقتها: النقيب طلبة رضوان طلبة.
- قائد سرية الرشاشات وقتها: ملازم أول محمد إسماعيل شمس الدين.
وننقل هنا ملخَّص ما قاله كل منهم عن قصة البطولة التي شاركوا فيها كمثال حي على بطولة وجسارة وكفاءة المقاتل المصري في مواجهة العدو الإسرائيلي:
رواية المقدم رجب عثمان:
هو من مواليد القاهرة 30 سبتمبر 1935، من حي بولاق أبو العلا؛ تخرج من الكلية الحربية في نوفمبر 1956 ضمن الدفعة 36 حربية. تولى قيادة الكتيبة مشاة يوم 6 أكتوبر1971، وقد عاش مع كتيبته طوال سنتين تدريبات شاقة مع التكليف بإرسال دورية لمدة ليلة واحدة مكونة من ضابط وصف ضابط وجندي للعبور إلى الضفة الشرقية لمراقبة العدو وتصوير مواقعه، والتعرف على أي مستجدات، كما قامت قوات المشاة بمعاونة شركات المقاولات المصرية في أعمال بناء وتشييد قواعد الصواريخ المصرية ضمن منظومة حائط صواريخ الدفاع الجوي بعد ما زادت الخسائر بين عمال التراحيل الذين كانوا يتولون ذلك الأمر من جراء القصف الجوي الإسرائيلي للحيلولة دون استكمال هذا الإنجاز العظيم.
ويذكر المقدم رجب: أن كتيبته كانت صاحبة تشييد أول نموذج من المصاطب على الضفة الغربية في مواجهة خط بارليف؛ تلك المصاطب التي كانت تضم مرابض دبابات ونقط ملاحظة مدفعية ورشاشات، ولهذا حظيت كتيبته بزيارات لشخصيات مهمة فزارها الرئيس السادات والمشير أحمد إسماعيل وزير الحربية، وكبير خبراء الروس، واللواء حسن أبو سعدة قائد الفرقة؛ أما المهام القتالية للكتيبة خلال حرب أكتوبر فقد تسلمها قائد الكتيبة من قائد لواء المشاة العقيد محمود علي حسن المصري يوم 28 سبتمبر 1973، الذي كان قد تسلمها بدوره من اللواء حسن أبو سعدة قائد الفرقة المشاة.
وقام قائد الكتيبة بتوزيع المهام على قائد سراياه الساعة 11 مساء يوم 30 سبتمبر 1973، وكانت الخطة تقتضي دفع سرية مشاة من الكتيبة كمفرزة أمامية للوصول إلى خط الدفاع الثاني للعدو على مسافة نحو 2 كيلو متر بمنطقة تباب صناعية تعرف بـ(تبة السبعات)؛ لأنها شيدت على شكل هندسي يشبه أرقام 7، ويجب احتلال هذه المرابض قبل وصول قوات العدو الاحتياطي القريبة من المدرعات الموجودة بتبة الشجرة على بعد 10 كيلو متر من شرق القناة، والذي يستغرق وصولها حوالي 15 دقيقة، أي: كان المطلوب من السرية الأمامية أن تصل بعد عبور القناة إلى الموقع الدفاعي في تبة السبعات، وهي بكامل عتادها وأسلحتها في أقل من 10 دقائق لمنع مدرعات العدو من الوصول إلى هذا الموقع الذي يمكن من خلاله وقف عبور القوات المصرية من غرب إلى شرق القناة، وكانت المهمة الثانية بعد أن يكتمل عبور الكتيبة الاستيلاء على موقع تبة الشجرة، ويتوقف نجاح هذه المهمة على نجاح السرية الأولى من تحقيق مهمتها، أما المهمة النهائية للكتيبة فهي التقدُّم شرقًا بعد السيطرة على تبة الشجرة لمركز (كثيب أبو كثيرة) الذي يبعد حوالي 3 كيلو متر من تبة الشجرة.
وقد اختار المقدم رجب عثمان النقيب طلبة رضوان قائد السرية الأولى لمهمة المفرزة الأمامية بناءً على ما يتمتع به من لياقة عالية، وسيطرة تامة، وصلة قوية على جنود سريته، وهو ما ظهر جليًّا خلال مشروع للتدريب تضمن الجري بالمهمات لمسافة 2 كيلو متر، وذلك في وجود قائد الفرقة اللواء حسن أبو سعد.
ويذكر المقدم رجب عثمان أنه عندما دارت عجلة الحرب يوم العاشر من رمضان تقدَّم النقيب طلبة بسريته المفرزة الأمامية لتحقيق المهمة الأولى، والتي أنجزها بنجاح كامل، وبدأ الاشتباك مع مدرعات العدو بعد أن سبقها إلى تبة السبعات، واستطاع رجال سريته تدمير دبابتين للعدو، وقد التقط باقي جنود الكتيبة وصول النبأ بذلك بفرحة غامرة زادت من حماسهم واستعجالهم العبور إلى الضفة الشرقية.
عَبَر المقدم رجب القناة مندفعًا مع باقي الكتيبة حتى وصل إلى حيث النقيب طلبة، ولكنه فوجئ بدبابة إسرائيلية مندفعة نحوه مباشرة، فأصدر أوامره إلى رامي مدفع م / د بالتصدي للدبابة فلم تصبها القذيفة، فاندفعت الدبابة بكل قوة تجاه المدفع لسحقه بجنزيرها، ولكن النقيب طلبة أصدر أمرًا إلى أحد رماة (أر. بي. جي) بسريته فدمرها.
بدأت الكتيبة بعد غروب الشمس وفي ظل قصف مدفعية العدو وطيرانه في فتح تشكيلها عند تبة السبعات على مسافة نحو كيلو ونصف كيلو من القناة؛ حيث قام كل فرد بتجهيز حفرته البرميلية للاختباء فيها من قصف الطيران كما كان يفعل المقاتلون في فيتنام في مواجهة الطيران الأمريكي، حتى قائد الكتيبة كان يحفر حفرته بنفسه للتخفي والتغلب على قصف العدو؛ لدرجة أن يوم العاشر من رمضان قد مرَّ بأكمله دون خسائر حتى الثامنة مساء حين استشهد قائد ثان السرية الثانية مشاة حين أصابته شظية من دانة مدفع إسرائيلي إلى جانب ثلاث إصابات لضابط وجنديين من لدغ عقارب، ولكن تم إسعافهم بالمصل الذي كان متوفرًا معهم.
وفي مساء العاشر من رمضان اكتشف ضابط استطلاع الكتيبة دبابة إسرائيلية متسللة من الخلف فطاردها مع رئيس أركان الكتيبة، ولكن جندي من سرية النقيب طلبة قام بتدميرها.
وفي يوم الثاني عشر من رمضان - الثامن من أكتوبر، هاجم اللواء الإسرائيلي 190 مدرع بقيادة الكولونيل (عساف ياجوري) الفرقة الثانية للوصول إلى نقطة الفردان والالتفاف خلف الفرقة الثانية، ولكن تم تدمير اللواء الإسرائيلي وإنهاء المعركة في مدة وجيزة للغاية، في حين أن معركة مع لواء مدرع في العلم العسكري تستمر من ساعتين إلى 3 ساعات، وتم تدمير 35 دبابة للعدو في بداية المعركة، كما تم أسر قائد اللواء عساف ياجوري.
وصلت الأوامر للمقدم رجب عثمان في الساعة الواحدة ظهر يوم الثاني عشر من رمضان - الثامن من أكتوبر بتطوير الهجوم شرقًا حتى خط تبة الشجرة، وكان قد تم رصد خلال المراقبة طوال اليومين السابقين وجود 16 دبابة إسرائيلية تعتلي منطقة تبة الشجرة المرتفعة وتصب نيرانها بسهولة على القوات التي في مواجهتها، ولوحظ أن هذه الدبابات تتجمع آخر ضوء النهار وتهبط إلى الجانب الآخر من التبة فتصبح مختفية عن الأنظار حتى صباح اليوم التالي، وعليه كان قرار المقدم رجب هو الهجوم مع آخر ضوء النهار، أي: وقت هبوط الدبابات للمبيت والتزود بالوقود والذخائر، وبالفعل هاجم رجال الكتيبة الموقع هجومًا مباغتًا تعلوه صيحات التكبير: (الله أكبر)؛ مما ساعد في إرباك العدو وشل تفكيره، ففر العدو تاركًا دباباته ومجنزراته، وناقلات جنده المدرعة، وسيارات الجيب ومواتيرها دائرة! وسرعان ما سقط الموقع في أقل من 40 دقيقة وبه كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمعدات كما هي، وقام المقدم رجب بإعطاء الأوامر لقوات الكتيبة بتعزيز دفاعاتها في تلك المنطقة.
ومع أول ضوء من صباح يوم الثالث عشر من رمضان - التاسع من أكتوبر: تواصل القصف العنيف المستمر لكتيبة المشاة التي استولت على الموقع بواسطة الطائرات والمدفعية والدبابات حتى آخر ضوء النهار بغرض استعادة الموقع، ولكن دون جدوى، ولم يجرؤ العدو على التقدم نحو الموقع لمسافة أقل من 3 كيلو متر، وفي المساء جاءت التكليفات بالتقدم إلى كثيب (أبو كثيرة) الذي يبعد شرقًا عن تبة الشجرة بحوالي 3 كيلو متر في عمق سيناء ليكون رأس كوبري الفرقة، وبدراسة طبيعة المنطقة رأى المقدم رجب عثمان ضرورة التقدم مسافة كيلو مترين آخرين عند كثيب (أبو وقفة) مما يحسن موقف الكتيبة.
وقد ظلت الكتيبة في هذا الموقع متمسكة به حتى وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر 1973، ومن بعده فض الاشتباك وفصل القوات، بحيث كان الحد الأمامي للكتيبة هو نفس الحد الذي حاذت باقي القوات المصرية على الجبهة.
رواية النقيب طلبة رضوان:
وهو من مواليد 20 سبتمبر 1946 بحي مصر القديمة بالقاهرة، التحق بالكلية الحربية وتخرَّج منها عام 1964، بالدفعة 49 حربية، التحق عقب تخرجه بوحدات المشاة على قوة الكتيبة المشاة التي كان لها بعد ذلك شرف الاستيلاء على موقع تبة الشجرة، حيث تدرج فيها حتى بلغ قائد السرية التي خاض بها حرب العاشر من رمضان.
ويذكر النقيب طلبة أنه في مساء الأحد 30 سبتمبر 1973 وفي اجتماع بمكتب قائد الكتيبة المقدم رجب عثمان حضره زملائه من قادة السرايا تعرف على مهام سريته في الحرب، وأن سريته ستعمل كمفرزة أمامية متقدمة قبل باقي القوات بالزمن اللازم لسبق احتياطي العدو القريب لمنعه من التدخل في عملية العبور للقوات المصرية، وكان الهدف هو احتلال (تبة السبعات) على مسافة 1600 متر من القناة، وتعتبر نقطة استناد للعدو لتوجيه هجماته للقوات التي تنجح في العبور، وبعد التأكد من تفهم المهمة تم انصراف كل واحد إلى موقعه.
انشغل فكر النقيب طلبة طوال الليل حتى الفجر في كيفية تنفيذ المهمة؛ خاصة أنها كانت صورة طبق الأصل من مهمة آخر مشروع تكتيكي تم تنفيذه، فأمر سريته صباح اليوم التالي دون الإفصاح عن المهمة التي كلفت بها السرية وتحت سيطرة رقباء الفصائل بالتدريب على المهمة مرة أخرى وبالذات رماة مدفعية (آر بي جي).
ثم اجتمع بالضباط وأبلغهم بالمهمة التي كلفت بها السرية دون أن يعلم الجنود ما ذكره للضباط؛ فأعطى النقيب طلبة أوامره للسرية بإنشاء نقط ملاحظة جديدة مهمتها الوحيدة مراقبة تبة السبعات ليلًا ونهارًا، وتم تزويد هذه النقط بمعدات للمراقبة النهارية وجهاز رؤية ليلي، وتم تعيين وإعطاء الأوامر والتعليمات لستة جنود من قدامى الجنود للقيام بذلك مع التنبيه بالإبلاغ الفوري عن أن جديد يحدث بالتبة، ورغم أن التبة كانت واضحة بالعين المجردة، ولكن تفاصيلها الطبوغرافية كانت غير واضحة.
وفي المساء قام القائد بعمل استطلاع لمنطقة عبور السرية مع النقيب طلبة، وكان اختيار موقع الهجوم للسرية في منحنى للقناة لا تستطيع النقاط الإسرائيلية رؤيته ولا معرفة ما يدور فيه، ولا تؤثر فيه النيران، فلا يشعر العدو بالاختراق لقواته والوصول للتبة، وناقش القائد طلبة فيما توصل إليه من قرارات لتنفيذ المهمة، ثم أمره بوضع هذه القرارات على الخريطة لعرضها عليه في صباح اليوم التالي 2 أكتوبر، وبعد انصراف القائد انهمك النقيب طلبة في عمل خريطة القرار، ووضع كل المعلومات التي لديه عن العدو عليها، وبيان كل ما سيقوم به من أعمال قتال، في صباح الثاني من أكتوبر قام القائد بالتصديق على قرار النقيب طلبة في الحرب، مع التأكيد على ضرورة منع احتياطي العدو من الوصول إلى الضفة الشرقية، والتدخل في عملية العبور للقوات المصرية مهما كان الثمن، وكان حجم احتياطي العدو المدرع المتوقع مقابلته هو سرية بنسبة استكمال 70 % أي: حوالي 7- 8 دبابات، وفصيلة مشاة ميكانيكية بداخل 4 عربات مدرعة قوتها 44 إسرائيليًّا.
وعمل النقيب طلبة على الشحن المعنوي للسرية في أعقاب المشروع التدريبي الأخير، ورفع اللياقة البدنية للسرية، واستكمال إجراءات تنظيم القتال.
وفي نفس اليوم عَيَّن النقيب طلبة الأفراد من السرية الذين سيصحبونه في مهمة المفرزة، وكذلك من سيعبر مع الموجات التالية على أن لا يكون مع مَن سيصحبونه سوى شدة القتال دون المهمات الزائدة، والتتميم على الذخائر والقنابل بأنواعها، والأقنعة الواقية من الغازات الحربية ومدى سلامتها، مع تحديد الأفراد الذين سيحملون الذخائر الزائدة ومَن سيتركون في المؤخرة، وفي المساء قام باستدعاء الضباط ومناقشتهم فيما وصلوا إليه من قرارات لتنفيذ مهمة كل واحد منهم.
وتم التخطيط على أساس اختيار 12 قناصًا للدبابات والمدرعات على أن يتم تشكيل 6 منهم أمام مواجهة السرية، وعلى مسافات ما بين 300 - 600 متر طبقًا لمرمى كل سلاح، والباقون عليهم تأمين الأجناب وخلف السرية، والطريق الأوسط لسيناء الواقع على الجانب الأيمن من السرية وينبغي أيضًا تأمينه، وخلال الأيام التالية كانت هناك الأعمال الإدارية الخاصة بالتحضير للهجوم وإتمام ضبط الأسلحة ومراجعتها، واستكمال التجهيزات الليلية الخاصة بـ(آر بي جي) وتنسيق التلسكوبات لها، ومراجعة تفاصيل التفاصيل الخاصة بتنفيذ المهمة.
وتم يوم الخميس 4 أكتوبر تجميع أطقم اقتناص الدبابات والتوجه بهم إلى ميدان الرماية للتدريب على كيفية استخدام الأرض الاستخدام المثل، وأسلوب التعاون بين الأطقم، واستخدام الإشارات فيما بينها مع الرماية بالذخيرة الحية، وتم التفتيش عن ملابس الحرب كاملة (تفتيش حرب) فردًا فردًا.
وفي يوم الجمعة 5 أكتوبر انتقل النقيب طلبة في سرية تامة بقواته إلى موقعه الجديد، واتخذ موضع مواجهة الهجوم، وجاءت سرية أخرى لتحل محل سريته، وقيدت التحركات على الجميع، وفي الساعة 11 مساءً وصلت الدفعة الأولى من قوارب العبور المطاطية (الذودياك) فتم نفخها ووضعها في الأماكن المخصصة لها، مع عمل تمويه جيد قبل دخول النهار، ثم تبعتها دفعة القوارب الثانية في الواحدة بعد منتصف الليل.
وانتظر النقيب طلبة ومَن معه اليوم التالي يوم السبت العاشر من رمضان لتنفيذ المهمة في ظل إحساس عميق بالقلق من ثقل وعظم المسئولية، والخوف من وصول أي دبابة للعدو إلى الضفة الشرقية للقناة، وما سيترتب على ذلك من خسائر جسيمة في الأفراد؛ إذ إن أضعف توقيت ستكون عليه قواتنا هو توقيت وجودها في القوارب في القناة، وما سيترتب على ذلك من تعطيل لعملية العبور، وتأثير ذلك على القوة الدافعة لهجوم القوات.
وللحديث بقية إن شاء الله.