كتبه/ أحمد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
تمهيد:
منذ عدة أيام خرج الدكتور "عائض القرني" مع الإعلامي "عبد الله المديفر" في برنامج "الليوان" في حلقة مهمة حَملتْ اسم: "حكاية الصحوة"، ويبدو مِن عنوان الحلقة أن الحوار متوجه للحديث عن تجربة الدكتور عائض مع التيار الفكري السروري الذي تسمَّى باسم: "الصحوة"، ورغم أن هذا الموضوع كان عنوان الحلقة؛ إلا أنه جاء مختصرًا مضغوطًا، لصالح أمورٍ أخرى كانت لدى المذيع رغبة في أن يستنطق الدكتور عائض بشأنها، وبالتالي أغلق الحديث عن كل ما يخص الصحوة في الربع الأول مِن اللقاء على إثر الاعتذار التاريخي الذي أعلنه الدكتور عائض!
وحول مضمون هذا الاعتذار نقف عدة وقفات:
أولاً: جماعة الصحوة التي تحدث الدكتور عائض عن تجربته معها هي جماعة وتنظيم سعودي تأسس على يد الأستاذ "محمد بن سرور زين العابدين"، وهو رجل سوري الجنسية، إخواني النشأة، اختلف مع جماعة الإخوان في سوريا، وسافر على إثر ذلك ليعمل مدرسًا لمادة الرياضيات في المملكة العربية السعودية.
وهناك أسس محمد بن سرور لجماعةٍ تجمع بين السلفية والقطبية والإخوانية؛ فالسلفية هي الطابع المعهود عند أهل المكان، ولا يسعه أن يصطدم به أو يخالفه، والقطبية قد تشربها مِن اتصاله بالأستاذ "محمد قطب"، والإخوانية هي مذهبه الأصيل وتربيته الأولى، فنتج مِن هذا الدمج جماعة هجينة ظاهرها سلفي وقلبها إخواني قطبي، واستقطب هذا التيار الجديد مجموعة مِن الشباب السعودي في ذلك الوقت، أشهرهم: "سفر الحوالي، سلمان العودة، ناصر العمر، عائض القرني"، وغيرهم.
والمشكلة: أن الحلقة أزاحت الستار عن مصطلح "الصحوة" دون أن تذكر للمشاهد تعريفًا وافيًا بماهية الصحوة، ودون أن يعرف المشاهد أن الصحوة الذي يتحدث عنها الرجل هي جماعة تنظيمية أو تيار فكري معين، ويبدو أن هذا الخلط كان مرادًا ومتعمدًا؛ بدليل أن المذيع عندما ذكر للدكتور عائض التوصيف الأشهر لجماعة الصحوة، وهو: "تيار يجمع بين العقيدة السلفية والحركية الإخوانية" لم يعلِّق على ذلك، وتعمد نقل الكلام إلى مساحة أخرى.
ثانيًا: ذكر الدكتور عائض اسم الصحوة في معرض "التراجع والاعتذار"؛ مما أوهم أنه يتحدث عن حركة الإحياء والنهضة الإسلامية التي عمت البلاد العربية والإسلامية، والتي أطلق عليها: "الصحوة الإسلامية"، والجدير بالذكر أن هذا الغموض متعمد أيضًا، وهو غموض له جذور في أصل اختيار جماعة الصحوة لاسم: "الصحوة"؛ ذلك أن الأمر -وكما ذكره الأستاذ محمد سرور- نوقش في بداية تأسيس التنظيم، هل يكون للتنظيم اسم أم لا؟ واستقر رأي المجتمعين وقتها ألا يكون لهم اسم، وإنما كان القرار أن يلتصق هؤلاء الرموز بالتيار الأشهر وقتها وهو "الصحوة الإسلامية" بينما انتشر لهم اسم آخر أوضح في الدلالة على واقع الجماعة وهو "السرورية" نسبة لمحمد بن سرور، وإن كانوا يكرهون هذا الاسم كراهية شديدة؛ لأنه يحطم أصل الفكرة التي اتفقوا عليها في البداية، وهي رفض التسمي.
ثالثًا: إذا تبيَّن لنا الآن أن الدكتور عائض يتحدث عن الجماعة التي كان مِن أحد رموزها، فلننظر ما هو موضوع الاعتذار؟ وما مسوغه؟ وما توابعه؟!
يمكن تحديد نطاق اعتذار أو تراجع الدكتور عائض في مسارين رئيسيين:
الأول: مسار يخص فكر الجماعة ومنهجها.
والثاني: مسار يتعلق بمضمون الخطاب الدعوي وطريقته.
أما الأول: فقد ذكر أن الأخطاء الإستراتيجية الكبرى التي وقعوا فيها تتلخص في: "مصادمة الدولة ومهاجمة الحكام - تهميش دور العلماء الكبار - قلة العلم والتسرع والحماسة".
أما الثاني: فقد بدا فيه متخبطًا ومترددًا؛ فتارة يتحدث عن أسلوب الدعوة أنه كان غليظًا وعنيفًا، ويميل إلى فرض الوصاية على الناس، وتارة يتحدث عن الأحكام الشرعية المتعلقة بالهدي الظاهر، مثل: اللحية وتقصير الثياب، بل وامتد الحديث إلى التدخين، والأناشيد والأغاني، وهو ما عبَّر عنه في نهاية الحلقة بأنه الإسلام الوسطي المنفتح!
رابعًا: بخصوص الاعتذار عن المسار الأول، فقد كنا نتمنى أن نفرح به ونعده تراجعًا محمودًا عن منظومة الأفكار القطبية التي تسربت إلى التيار السلفي عبر قنطرة السرورية، وكنا نطمع في مزيد شرحٍ وبيانٍ لخطورة هذه المسالك، وتأثيرها المدمر على الدعوة الإسلامية؛ إلا أن الحديث عنها جاء مختصرًا غير وافٍ، مختزلًا، منقوصًا غير مكتمل ولا مستوعب لباقي ملامح الفكر الذي يعتذر عنه.
والأخطر مِن ذلك: أنه جاء جامحًا مندفعًا، فكان أن ألقى به إلى الضفة الأخرى مِن النهر!
فانتقل الرجل مِن تبني الصدام مع الدولة ومناكفة الحكام إلى كونه أصبح سيفًا مِن سيوف الدولة، وأن الحياد في نظره خيانة، وكأن طابع الحدة والعنف والتطرف في الرأي لم يتغير، وهذا الأمر يُلقي بظلالٍ مِن الشك حول موضوعية هذه التراجعات والاعتذارات التي لابد أن تتم بهدوء ودراسة متأنية، وتروٍّ شديدٍ، أما أن يكون التراجع بهذا العنف والجموح، فيبقى الخطر قائمًا كما هو.
خامسًا: بخصوص المسار الثاني وهو الاعتذار عن الخطاب الدعوي القديم، فهو مِن الانحراف الذي لابد أن يتداركه الدكتور عائض بتوضيحٍ أو باعتذارٍ؛ وإلا فقد أقرَّ الرجل على نفسه أنه انتقل بالفعل إلى مساحة أخرى، يسميها هو مساحة اليسر والسماحة والرحمة، وهي في الحقيقة مساحة التنازل عن الأحكام الشرعية وتمييع الدين، ومصادمة الأدلة، كما أن فيها إهدارًا لما في تاريخ الدكتور عائض مِن حسناتٍ تمثلت في دعوة الناس إلى التمسك بالسُّنة والالتزام بالهدي وترك المنكرات والمحرمات، فلماذا هذا النكوص؟!
ولماذا هذا التنكر للتاريخ الجميل؟! خاصة إذا علمت أن الصورة الجديدة التي يرسمها الدكتور عائض عن دعوته الجديدة لا تمنع مِن التعاون مع الفنانين والرياضيين وإقامة الأعمال المشتركة! وقد كتب الرجل بالفعل عددًا مِن الكلمات ليغنيها بعض مشاهر الغناء في الوطن العربي! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا الأمر نذير خطر وشؤم، وهو بداية الانزلاق إلى هوة سحيقة لا يعلم سقف التنازلات فيها إلا الله -عز وجل-، نسأل الله لنا وله الستر والعافية في الدنيا والآخرة.
وإذا أردنا أن نلزم الدكتور عائض بما تراجع عنه من فكره القديم وهو عدم الإنصات إلى كلام المشايخ الكبار، أمثال: ابن باز وابن عثيمين، فهلا طبَّق هذا الكلام هنا؟! وهو يعلم تمام العلم مذهب هؤلاء المشايخ فيما اختطه لنفسه في توجهه الجديد، أم أن الأمر على ما هو عليه يتسم بالانتقائية والهوى؟!
فلو التزم الدكتور عائض بلوازم كلامه، لكان عليه ألا يخالف كبار العلماء والمشايخ في الموضوعات التي يسعى فيها إلى التجديد والسماحة.
سادسًا: فات الدكتور عائض أن يتحدث عن أمرٍ في غاية الخطورة كان عَلَمًا على جماعته، وهو أنهم كانوا يصفون العلماء الكبار بأنهم علماء شريعة، وليسوا فقهاء واقع، وكانوا يرون في أنفسهم القدرة على فهم الواقع وتحليله، وأنهم يجب أن تكون لهم الصدارة والبروز في ذلك، حتى ذكر أن رموز هذه الجماعة البالغ عددهم 25 فردًا كان للشيخ ابن باز -رحمه الله- جلسة شهرية معهم يناقشهم وينصحهم ويوجههم، وعندما سأله المذيع: "وهل كان لهذه النصائح تأثير عليكم؟ قال له: كنا نتهمه بعدم فقه الواقع!".
والآن بعد مرور هذه السنوات يحكي الدكتور عائض في نفس الحلقة بعض المواقف التي تدل على عميق فهم الشيخ ابن باز -رحمه الله- للواقع، وأنه كان حسن التصرف، حكيمًا في مواقفه؛ أفلم يكن مِن الجدير به أن يعتذر عن هذا الأمر ويوضحه، خاصة أنه آفة متكررة في كل جيل؟!
كما أنه فاته أن يقدِّم الاعتذار للعلماء والمشايخ الذين نهشت جماعته في لحومهم لعددٍ مِن السنين متهمين إياهم بالجهل والسطحية والسذاجة، ألم يكن يستحق هذا الخطأ الكارثي اعتذارًا حارًّا، بل إنه تجب فيه التوبة إلى الله -عز وجل-؟!
خاتمة:
إن هذه الحلقة وما حوته تعطي لنا صورة حية عن أهمية سلامة الفكر وصحة المنهج، فأثر الخلط فيهما يوصل الإنسان إلى بواباتٍ مِن الانحراف والفساد، كما أنه يستوجب منا أن نشكر الله -عز وجل- أن هدانا إلى المنهج الصحيح والفهم السليم، وهذه نعمة عظيمة لا يوفي الإنسان حق شكرها مهما فعل، وإلا فكم ضلت جماعات وتيارات في ظلمات الجهل والشك والتردد، في الوقت الذي هدانا الله فيه إلى حسم ما وقعوا فيه مِن انحرافاتٍ، فالحمد لله أولاً وآخرًا.
كما أنه مِن المهم أن نؤكِّد على: أن النوازل الكبرى والفتن العظيمة لا ينبغي أن يتصدَّى لها إلا العلماء الأثبات الذين تمكنوا مِن ناصية العلوم، وفهموا مراد الشرع، وعلموا حقيقة الواقع بلا اندفاع ولا عاطفية؛ وإلا فكم مِن شبابٍ ضلوا وانحرفوا بسبب كلمة طائشة مِن داعية أو موقف عنتري مِن خطيب أو واعظ!
ولعل هذا الدرس أيضًا كان مِن أهم ما يلزم الدكتور عائض أن يوضِّحه كدرسٍ مستفادٍ مِن تجربته الطويلة، ولكنه أيضًا لم يفعل!