كتبه/ شحات رجب البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق أن قراءة الحداثيين المشوَّهة للتاريخ، لا تُقَارن في كثيرٍ من الأحيان بقراءة منصفي المستشرقين للتاريخ الإسلامي، واستيعاب كثير من جوانبه.
فمنذ ما يقرب من قرنين، وتحديدًا في سبتمبر 1837م، عقد علماء الغرب مؤتمرًا كبيرًا احتفالًا بالذكرى المئوية لإنشاء إحدى الأكاديميات العلمية البارزة عندهم، وفاجأهم المستشرق الألماني (فريديناند وستنفلد 1808- 1899) ببحث علمي في (170) صفحة باللغة الألمانية عنوانه: "الأكاديميات العربية ومعلميها"، وكان هذا المستشرق له عناية بطباعة كتب التاريخ الإسلامي والرجال، فقد أخرج "السيرة" لابن هشام، و"الوفيات" لابن خلكان، و"طبقات الشافعية" للقاضي ابن شهبة، وكتب البلدان لياقوت الحموي وغيره، وكانت قراءته لكتب التاريخ أثناء عمله قراءة منصفة، استخرج من بين سطور هذه الكتب وجهًا حضاريًّا من وجوه الحياة في ظل الإسلام، فكان هذا البحث الذي قال في مقدمته (ص: 1) ما ترجمته: "إذا كنا نحتفل اليوم بمرور مائة عام على تأسيس هذا المعهد العلمي، فلا أخجل أن أذكر بجانبه أشهر أكاديمية للعرب، مرَّ عليها 770 عامًا"، وكأنه ينبه أوروبا إلى السبق الذي حصَّله العرب في إقامة هذه المؤسسات العلمية، يقصد بهذا المدرسة النظامية التي أنشأها نظام الملك في بغداد.
ثم أحال (فستنفلد) إلى كتاب "الوفيات" لابن خلكان الذي نشره قبيل المؤتمر حيث وجد فيه ذكرًا لعددٍ كبير للمدارس العلمية في العالم الإسلامي، وذكرًا أكبر للعلماء الذين درَّسوا في هذه المدارس.
وبيَّن أن الدين هو سر نهضة العرب من الجاهلية فقال ما ترجمته: "لقد فتح الدين الجديد مجالًا جديدًا بالكامل وأصبح السبب الأول للجهود العلمية؛ وكان يعتمد على القرآن الكريم المكتوب، والذي تم تفسيره واستكماله بأقوال النبي الشفهية؛ ومنذ ذلك الحين، أصبح كلاهما موضوع دراسة خاصة. ورغم علمهم وإرادتهم، فإن أصحاب محمد الذين لم يتلقوا سوى التدريب العسكري، أصبحوا أيضًا معلمين وسلطات أولى من خلال سرد سيرته وأعماله وأقواله حول الدين والعادات الدينية والأحوال الاجتماعية. إن معرفة القرآن والسنة هي أساس كل شيء للبحث العلمي عند العرب".
وثم تكلَّم عن اهتمام الخلفاء والوزراء بالجانب العلمي الأكاديمي فقال ما ترجمته: "وكانت هناك مؤسسات خاصة للعلوم الطبيعية، وكانت العلوم الصيدلانية تُدرَّس في المستشفيات. وكانت مرافقهم مماثلة لتلك الموجودة في الكليات الإنجليزية؛ كان الأساتذة والطلاب يعيشون معًا في المباني، وكان أغلبهم يتقاضون رواتبهم من الأوقاف المرتبطة بها".
ثم شرع في سرد نظام هذه المدارس وأشهر المعلمين فيها، والمواد التي كانت تدرس فيها، وهو يكتب بقلم المنصف في كثير من الأحوال لهذا التاريخ.
لم يكن هذا هو البحث الوحيد للمستشرق (فستنفلد) الذي يدل على قراءته المنصفة للتاريخ الإسلامي، بل كتب بحثًا آخر باللغة الألمانية عنوانه (قصة الأطباء والعلماء الطبيعيين العرب) يخاطب به الغرب، سرد خلال (220 صفحة) سيرة عشرات العلماء المسلمين الذين تخصصوا في الطب والرياضيات والعلوم التطبيقية، إما تخصصًا منفردًا، أو جمعوا بينها وبين العلوم الشرعية؛ كتب هذا الكتاب بلسان الغرب معلنًا لهم عن عظمة الحضارة الإسلامية.
وأيضًا لم يكن هذا آخر إسهاماته في القراءة الموضوعية للتاريخ الإسلامي، بل أخرج بحثًا آخر في (140 صفحة) بعنوان: (الترجمات العربية إلى اليونانية منذ القرن الحادي عشر)؛ اهتم فيه بكيفية انتقال العلوم العربية إلى أوروبا، وناقش فيه جهود الأوروبيين لتعلم اللغة العربية ليسهل عليهم ترجمة علوم المسلمين إلى اللاتينية ومن ثم إلى بقية لغات أوروبا، وترجم في كتابه لـ (36) مستشرقًا من المستشرقين الأوائل، مبيِّنًا كيف تعلم العربية ورحلته إلى بلاد الإسلام، والكتب التي ترجمها.
يظهر مما تقدَّم: أن قراءة الحداثيين للتاريخ قراءة مغلوطة ومشوهة، الهدف منها تشويه هذا التاريخ، قد يكون هذا نابعًا عن جهل منهم بالتاريخ، وقصور في استيعابه، أو لأهداف أخرى.
وتبقى قراءتهم ينقصها الاستيعاب والموضوعية مقارنة بقراءة وتحليل عدد من المستشرقين فضلًا عن قراءة علماء الإسلام.