الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 25 يونيو 2025 - 29 ذو الحجة 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (216) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (12)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).

الفائدة السادسة عشرة:

قوله -تعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً): لما ترك إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- وطنه وقومه وأهله لله -عز وجل-؛ أبدله الله -عز وجل- خيرًا منهم، فإن من ترك شيئًا لله -عز وجل- أبدله الله خيرًا منه، فكانت التضحية بهؤلاء الأهل والقرابات والقوم لله -سبحانه وتعالى- لها جزاؤها عند الله؛ أن وهبه -عز وجل- صحبة الأنبياء من ذريته، ولا شك أن هذا أعظم الفضل؛ فإن الإنسان يأنس بأهله وأولاده وذريته، ويسعد بوجودهم معه، وهذا من منن الله -سبحانه وتعالى- على الإنسان؛ كما قال -عز وجل- في الكافر الذي قال عن القرآن: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (المدثر: 25)، قال فيما امتن عليه به: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا) (المدثر: 11-13).

فوجود البنين الذين هم معه مِن نعم الله -عز وجل- التي لم يشكرها هذا الكافر، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهبه الله -عز وجل- إسحاق ويعقوب نافلة، أي: حفيدًا من ذرية إسحاق، وأدركه إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، فكان من نعم الله -عز وجل- عليه، بعد طول انتظار، وتأمل أن الله وهبه بإسحاق ويعقوب من سارة، وكان قد وهبه قبل ذلك إسماعيل من هاجر، ولكن امتن عليه في مواضع عديدة بإسحاق ويعقوب، ولم يذكر إسماعيل في نفس الموضع؛ كما قال -سبحانه وتعالى-: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 84-86).

فذكر -عز وجل- الامتنان بإسحاق ويعقوب لأجل الصحبة، وأما إسماعيل فإنه كان بأمر الله -عز وجل- في مكة، بعيدًا عن أبيه إبراهيم؛ لأجل أن تعمَّر مكة، وأن تُبنَى الكعبة، وأن يظهر اختيار الله لهذه البقعة المشرَّفة على كلِّ بقاع العالم.

فكان الامتنان على إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بإسحاق ويعقوب، ومن سارة خاصة؛ لأنها هي التي آمنت به من نساء قومها، وهي التي صارت زوجة له وصَحِبته في رحلاته، بل كانت هاجر التي وهب الله له منها إسماعيل مِلكَها، وجاريتها التي وهبها لها الملك الظالم الفاجر بعد أن نجاها الله -عز وجل- منه؛ فكفَّ الله كيد الفاجر وأخدم هاجر.

ووهبتها سارة لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- علامة على الحب؛ إذ تأكدت أنها عقيم لا تلد، وإبراهيم يرغب في الولد، وهي رغبة مشروعة محبوبة: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 100)، فكانت هذه التضحية العظيمة من سارة أن وهبت له هاجر لكي يعاشرها بملك اليمين لكي يرزق الذرية الصالحة، وإن كان قد حصل في قلبها من الغيرة الطبيعية بعد ذلك منها، وكان ذلك من الأسباب، وليس السبب الرئيسي في التفريق بينها وبين سارة.

فأما السبب الرئيسي لترك هاجر وابنها إسماعيل في مكة المكرمة: بداية تعمير هذه البقعة؛ ولذلك قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) (إبراهيم: 37)، فلا يجوز أن نقول: إن السبب من أجل مهاجرة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بهاجر وإسماعيل إلى مكة مجرد الغيرة، وإنما كان لأجل إقامة الصلاة في هذه البقعة المشرفة المعظمة.

وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- عوَّضه الله -عز وجل- عن صحبة ابنه إسماعيل الذي جعل الله له من الشرف بناء بيت الله الحرام مع أبيه إبراهيم، وقبل ذلك شرف الصبر على الذبح والاستعداد لذبح النَّفْس في سبيل الله -عز وجل-، ولأجل طاعة الله -سبحانه وتعالى-؛ فكان هذا الشرف العظيم تعويضًا له عن مفارقة أبيه، فإنما كانت هذه المفارقة بأمر الله -سبحانه وتعالى-، كما قالت له هاجر: "آلله أمرك بهذا" أي: بتركهم في هذا الوادي الذي ليس به أنيس، ولا أحد، قال: "نعم".

ولما احتاج إبراهيم إلى الصحبة بعد أن ترك -هو وزوجته سارة- قومه، وهاجر لله -عز وجل-، وقال: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت: 26)؛ كانت الكرامة والمعجزة بأن وهب الله له من سارة العجوز العقيم وبعلها شيخ كبير؛ وهب لهما ولدًا، وفي حياة جده وجدته كان له ولد، فكان يعقوب نافلة أي: حفيدًا لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، يؤنسانه بدلًا من القوم الذين فارقهم لله -سبحانه وتعالى-.

فما أعظم أثر الطاعة في الدنيا والآخرة!

والصحبة عمومًا -صحبة مع الأولاد والأحفاد- صحبة سعيدة، لكن أعظم أنواعها أن يكونوا من الأنبياء، وأن تكون ذرية إبراهيم المباشرة من أولاده كلهم أنبياء، ومن ذريتهم أنبياء؛ فهذا كله من أعظم الصحبة نفعًا، وهو ما يسأله أهل الإيمان ويطلبونه؛ كما قال -عز وجل-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء: 69، 70)، وقال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (الشعراء: 83)، وقال يوسف -عليه الصلاة والسلام-: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101).

فصحبة الصالحين في الدنيا والآخرة من أعظم النعيم، وصحبة الأنبياء أخص أنواع النعيم؛ فآخر ما سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌اللَّهُمَّ ‌فِي ‌الرَّفِيقِ ‌الْأَعْلَى) (متفق عليه)؛ ولذلك كان هذا الجزاء من الله -سبحانه وتعالى- بصحبة أنبياء، هم أولاده تربوا في كنفه، وسعد هو وامرأته المؤمنة التقية الوفية، بوجود الأولاد والأحفاد من الأنبياء. والله المستعان.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.