الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 16 فبراير 2009 - 21 صفر 1430هـ

قرار هدم

كتبه/ ياسر عبد التواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فقد وقفتُ أمام بيتنا غيرَ مصدق لما جرى... أبعد طول غياب أراه على تلك الحالة؟!

ملحمةُ هو في ناظري، شهدته وشاهدني، وعايش أيام الطفولة ومراتع الصبا وجِدَّ الشباب.

كم زارني فيه عبر سِنِي عمري من زوار.. أصدقاء، ودعاة ومشاهير، وشباب وشيب!!

وكم مَرَّ علي فيه من أحداث.. أفراح وأتراح، آمال وآلام، وفشل ونجاحات!!

أحفظه حجرا حجرا، وأرقى درجه أو أهبط منه وأنا مغمض العينين؛ فقد اعتادت قدمي مواطئ الأقدام فيه.

وجيراني الذين يقاسموني السكنى فيه، كم اعتدت عليهم! ما بين من لم يرزق أولاداً فهو يعتبرنا عوضا عنهم، وما بين منطوٍ على نفسه أثار ريبتنا أطفالاً وشفقتنا كباراً، وما بين منفتح على الناس إلى حد الفضول، وثالثهم المعتدل البين بين.

وما بين أتراب نشأنا بينهم، وشاطرونا الطفولة والصبا، أو كبار عاينا الدهر فيهم، كل ذلك استحضرته لحظة الصمت أمام البيت، ألم أقل إنها ملحمة!

تذكرت كل هذا وأنا واقف أمامه، أراه وقد شلحوه من رياشه، كمثل من تعرى من ثيابه فجأة، فأتوارى له ومنه خجلا.

أستغرب تلك الرهبة وهذا الانفعال، أكل هذا من أجل بيت قديم سيهدم ليعود مرة أخرى بثوب جديد؟!

تجاهدني دمعة لتجيب في صمت أبانت عن ارتباط نفسي يتخطى الزمان ليرتبط بجغرافية المكان، ليس كعبادة الأرض تلك التي يطرحونها بديلا عن الدين -عياذا بالله-؛ بل كشعور فطري عبَّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه لما حرمهم الكفار من أرض الله المباركة" مكة"، فلما أصابت الحمى بعضهم ازدادت نقمتهم على من أخرجهم، وداعبهم الشوق للعودة إلى مراتع الصبا، فقد أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلهِ                 وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً             بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَــــــنَّةٍ           وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَفِى مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهْيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلاً. تَعْنِي مَاءً آجِنًا).

كم هو ثقيلٌ على النفس أن تودع مثل ذلك المكان، وكم عجيب أن يكتشف المرء من نفسه ذلك الارتباط الذي لم يكن يشعر به من قبل؟!

شعور بقيمة الشيء بعد فقدانه؛ فتزداد حسرة عليه بعد ما عرفت قيمته بينما لا يعود الزمن للوراء!

أتذَكـَّرُ كل هذا؛ فيجرني همّ الأمة إلى واقعي لأجد مشكلتي لا تقاس بهموم الآخرين، وأجدني أتواري خجلا من مشاعري تجاه بيتنا القديم الذي سيعاد بناؤه؛ إذ تشدني صورة ذلك المسن الواقف على أطلال بيته في فلسطين بعد ما هدموه، وتركوه يلتحف العراء، وتتداعى صور العائلات من ضحايا تشرذم الأمة وعجزها؛ لينضم للصورة الأطفال والنساء، ولتتنوع البلاد بعد هدم المنازل في فلسطين وأفغانستان يتم هدم منازل الناس في العراق.

وبكل مبررات الحقد وعتو الظلم يدَّعون أن ذلك بسبب ما يقوم به بعض أفراد تلك العائلات من أعمال مقاومة ضد ظلمهم وبغيهم، لم تطق نفوسهم مجرد تحمل مقاومة قام بها أصحاب الصدور العارية، والرؤوس الحاسرة، في رد فعل لم يكن ليظهر لولا ما فعله الظلمة من ظلم وأذى، وإنما فعلوا فعلهم ليقاوموا حصونا مدججة وأسلحة فاتكة، وقضية داعرة تسلطت عليهم فأكرهتهم على مقارعة هؤلاء، قال -تعالى-: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة:251).

لقد كان الكفار في مكة أرق قلوبا، وأطهر يدا، وأنظف خصومة من هؤلاء.

لقد هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر وخلفا بيتيهما وأسرتيهما، وكان باستطاعة الكفار أن يأخذوهم رهائن مثلا -كما يفعلون-، أو يهدموا البيوت على رؤوسهم، أو حتى يطالبوهم بفدية، لكنهم -ولبقايا فطرة منهم- لم يفعلوا.

بينما أدعياء الحضارة والمتمحكين في التقدم والرقي يفعلونها، فيهدمون بيوت الناس ويمطرونهم بثقيل مدافعهم وقنابلهم، فيقابلون الضربة بآلاف منها بلا رحمة ولا شفقة؛ لينضم الفعل إلى سلسلة الجرائم التي يرتكبونها، لم يكن أولها الاحتلال ولا آخرها استخدام أسلحة الدمار والأذى المحرمة، أو تسميم الطعام والشراب، ولا أحد حلقات سلسلتها سجون من أمثال أبو غريب.

ويأخذني الفكر أيضا لأتذكر جرائم مشابهة قامت بها بعض الأنظمة العربية، بنفس الجرأة والمبررات فهدمت منازل، وسكبت قوارير، وسرقت أموال، وخربت أثاث؛ بغية الانتقام من بعض المخالفين.

فوجدتُ لِي من تلك المصائب سلوى فيما آلمني من هدم منزلي.

ثم عدت ألوم نفسي مرة ثانية على أني تعزيت بهم دون أن يؤرقني حالهم!

تماما كحالنا المعاصر الذي يأبى أن يخرج من أنانيته ليعمل شيئا.

والله المستعان.