كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن النصيحة تحمل في طياتها معاني الحرص والحب والإخلاص والوضوح مع مَن ننصحهم، فهي "كلمة يُعبَّر بها عن جملةِ إرادةِ الخير للمنصوح".
والعجيب أنه بالرغم من أن الأصل في النصيحة يكون المراد بها غالبًا الخير للمنصوح، واستقامة أمره، وتصحيح مساره؛ إلا أن الأمر قد لا يحقق ذلك الخير المطلوب؛ إما بسبب أن الناصح لا يراعي آداب النصيحة، أو أن المنصوح يصر على التبرير لخطئه وعدم الاعتراف به: فبعض الناصحين قد لا ينتبهون أن الواجب عليهم أن يراعوا آداب النصيحة، حتى يسهل على المنصوح قبول النصيحة والعمل على تصحيح خطئه، وعدم الاستغراق في التبرير.
وعلى المقابل من هذا: فأغلب المنصوحين يلجئون إلى سلوك التبرير؛ لحفظ ماء وجههم، بدون النظر إلى تبعات ذلك عليهم أولًا، ولا على علاقتهم بإخوانهم مستقبلًا، أو المصلحة العامة لكيانهم الإصلاحي؛ فصاحب هذا المبدأ لا يكون في الحقيقة وبالًا على نفسه فقط، بل يكون وبالًا على الآخرين أيضًا، كونه لا يتقبل النصيحة بصدر رحب، بل يكثُر جدله فتحدث الخصومة بين الناصح والمنصوح، وقد تشتد الخصومة حتى يقع المحذور من بغض الله -تعالى- للأفراد؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ) (متفق عليه)، ومن هدم للكيان الإصلاحي.
التبرير سلوك عجيب:
سلوك التبرير في الحقيقة، سلوك يدعو إلى العجب؛ لا سيما إن صدر من أهل الفضل والديانة، فقد ذكر بعض المفسرين في قول الله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (الكهف: 54)، ما ورد في صحيح مسلم: عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ، فَقَالَ: (أَلَا تُصَلُّونَ؟) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (متفق عليه).
قال ابن عاشور -رحمه الله-: "يُرِيدُ رَسُول الله أَنَّ الْأَوْلَى بِعَلِيٍّ أَنْ يَحْمَدَ إِيقَاظَ رَسُولِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِيَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يُسَرَّ بِمَا فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَلَامٍ، وَلَا يَسْتَدِلُّ بِمَا يُحَبِّذُ اسْتِمْرَارَ نَوْمِهِ؛ فَذَلِكَ مَحَلُّ تَعَجُّبِ رَسُول الله مِنْ جَوَابِ عَلِيٍّ " (التحرير والتنوير).
والتبرير كمصطلح نفسي يعرف بأنه: "العملية التي يختلق بها الإنسان المبررات لما يأتيه من سلوك أو ما يراوده من أفكار وآراء، وذلك لكي تحل محل الأسباب الحقيقية!".
بل هو بصورة أكثر وضوحًا: عملية ستر للواقع وللحقيقة بستار تقبله النَّفْس وتستسيغه، بدون تأنيب ضمير، ويفعله المنصوح حفظًا لماء وجهه أمام الناصح، وبالتالي فهو يؤدي إلى الانصراف عن إصلاح الذات، وتفقُّد عيوب النفس، ومِن ثَمَّ يؤدي إلى الاستمرار في الخطأ الذي يؤدي في النهاية إلى الخسارة الفادحة.
وبالاستقراء والنَّظَر، نجد أن الوقوع في التبرير من قِبَل المنصوح قد يكون راجعًا إلى سببين: إما عدم القدرة على ضبط النفس وتقيدها بقيد الشرع أو بقيد التوجيهات المؤسسية مع عدم الصدق مع النفس في ذلك، أو يكون راجعًا إلى كِبْرٍ وعُجْب ٍأصاب القلب يصعب معه الاعتذار أو قبول النصيحة؛ لاستشعاره أن هذا يظهره بمظهر الضعف في ظنِّه، فتكون النهاية مؤسفة مهلكة، كما في الحديث: (ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوًى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وإعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (أخرجه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني).
وقد صدق القائل: "من اصفر وجهه من النصيحة، اسود لونه من الفضيحة"؛ أي: أن مَن رفض النصيحة، واتخذ مبدأ التبرير شعارًا له؛ لاعتباره أن النصيحة انتقاصًا وإهانة له؛ فإن لون وجهه يصفر تبعًا لهذه المشاعر المسيطرة عليه، ثم تكون النتيجة المنطقية بعد ذلك هي الفضيحة أمام الناس، واستبدال اللون الأسود باللون الأصفر؛ لتفاقم الخطأ وتكرار وقوعه أمام الناس جميعًا.
ولو كان المنصوح لبيبًا لاستقبل تلك النصيحة بفرح وسرور، وشكرٍ لأخيه، كما كان حال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بعضهم البعض.
ومما لا شك فيه -بعد هذا الاستعراض لأهمية النصيحة والتقويم داخل الكيانات الإصلاحية-: أن النصيحة يجب التحلي فيها بآداب مهمة حتى تحقق مقصودها من التقويم لا الهدم.
وهذا نتناوله في المقال القادم -بإذن الله-.