الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 17 ديسمبر 2025 - 26 جمادى الثانية 1447هـ

الوقفات الإيمانيَّة مع الأسماء والصفات الإلهيَّة (5) اسم الله (الرازق ـ الرَّزَّاق)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

المُقدِّمة:

- التعرُّف على الله -تعالى- أجلُّ أنواع المَعرِفة، والتعبُّد له -تعالى- بأسمائه وصِفاته أجلُّ أبواب التعبُّد: قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) (الأعراف: 180)، وقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (متفق عليه).

- وَرَد اسمُ الله -الرَّزَّاقُ- في القرآن مرَّةً واحدةً في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 58).

- ووَرَد اسمُ -الرَّازِق- في القرآن بصيغة التفضيل خمس مرَّات؛ من ذلك قوله -تعالى-: (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 114)، وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ) (رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني)(1).

- مدخَلٌ وعظِيٌّ لإثارة النفوس للَّتعرُّف على هذا الاسم "الرَّزَّاق - الرَّازِق": لو أنَّك سألت أيَّ إنسانٍ في الطريق: مَن الذي يرزقُك؟ لقال لك على البَدِيهة: الله الرَّزَّاق، ولكنِ انظُر إلى هذا الإنسان إذا ضُيِّق عليه في الرزق، تراه يقول: فلان قطع رِزقي! فما دلالة هذه الكلمة إذًا؟

دلالتُها: أنَّها تستقِرُّ في وقت السِّلم والأمن، ولكنَّها تهتزُّ إذا تعرَّضت للشِّدَّة؛ لأنَّها ليست عميقة الجُذور؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (فاطر: 3). إذًا هذا الإنسان في حاجةٍ إلى التعرُّف على "الرَّازِقِ - الرَّزَّاقِ" مرَّةً أخرى، ومَعرِفة ما يجب عليه عند التعبُّد بهذا الاسم الكريم؛ ليجني الآثارَ الجميلةَ لذلك.

الوَقفة الأولى: معنى اسمه -تعالى- (الرازق ـ الرزَّاق) وأقسام الرزق:

- معنى (الرازق ـ الرزَّاق) في حقِّ الله -تعالى-: قال الخطَّابيُّ -رحمه الله-: "هو المُتَكفِّل بالرزق، القائم على كلِّ نفسٍ بما يُقيمُها من قوتِها" (شأن الدعاء).

- ولأنَّه (الرازق ـ الرزَّاق)؛ فغِناه شامِلٌ دائمٌ لا يَفنى ولا يَنقصُ: قال -تعالى-: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) (الحجر: 21)، وقال -صلى الله عليه وسلم- قال الله -عزَّ وجلَّ-: (يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) (رواه مسلم).

ورزقُ (الرازق ـ الرزاق) لخلقِه على نوعين:

الأوَّل: الرزق العام (وهو: رزقُ الأبدانِ؛ كالطعام والشراب، والغِنى، والقوَّة البدنيَّة، والجمال، والولد، والسُّلطان، ونحو ذلك، ويكون لمَن يُحِبُّ ولمن لا يُحِبُّ)؛ فهو يشملُ المؤمن والكافر، والطير والبهائم، بل يشمل جميع ما تدِبُّ فيه الحياةُ من مخلوقاتِه؛ قال -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت: 60). وقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ) (رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني)(2).

الثاني: الرزق الخاص (وهو: رزقُ القلوبِ والأرواحِ، وهو خاصٌّ بالمؤمنين؛ كالعِلم النافع، والهداية والرَّشاد، والتوفيق إلى الطاعة والخير، والتَّحلِّي بجميل الأخلاق، وبكلِّ ما هو نافعٌ لهم في الدنيا والآخرة)، قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ) (رواه أحمد، وصحَّحه الألباني).

الوَقفة الثانية: من آثار التعبُّد باسم الله (الرازق - الرزاق):

1- الطُّمأنينة في القلبِ والسَّكينة وعَدَم الخوف على الرزق: قال -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (هود: 6)، وقال -تعالى-: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات: 22). وفي حديث المَلَك والجنين، قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ يُرْسَلُ اللَّهُ -تعالى- إِلَيْهِ الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ، نَفَثَ فِي رُوعِي: إِنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا) (رواه البيهقي بسندٍ صحيحٍ). وقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) (رواه مسلم)(3).

2- تَركُ الأسبابِ المُحرَّمة في طَلَبِ الرزق (الغِشُّ، التَّدليسُ، الاحتيالُ، الكذبُ، الظُّلمُ، أكلُ الرِّبا، إلخ): لأنَّها في الحقيقةِ سببٌ في حرمانِ الرزقِ أو بركتِه؛ قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ) (رواه البيهقي بسندٍ صحيحٍ). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) (رواه مسلم). (انظر هامش (4) في قصة الزوجين الصالحين ومحاولة الشيطان الإفساد بينهما من باب فتنة الرزق).

3- الإكثار من فعل الطاعات لمن أراد سعة الرزق بنوعيه: لأن (الرزاق) أخبر بأنَّ الطاعة هي أعظم أسباب سعة الرزق وبركته؛ قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2- 3). وقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف: 96). (الإشارة إلى قصة إبراهيم وهاجر أم إسماعيل -عليهما السلام-، وكيف أنَّ طاعة الله والاستسلام لأمره، والأخذ بالأسباب المعنوية العظيمة -الدعاء والتوكل- بعد انعدام الأسباب المادية كان سببًا في الفرج وتغير الحال).

4- اجتناب الشُّح والبُخل والحرص، والتحلي بالكرم والجود؛ فـ(الرزاق) يخلف: قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد: 7)، وقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ) (رواه مسلم).

5- صرف الهمَّ الأكبر لنيل أحسن الرزق (رضا الله -تعالى- والجنة): قال -تعالى-: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ . جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ . مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ . وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ . إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) (ص: 48- 54).

فاللَّهمَّ ارزقنا رضاك والجنة وأنت خير الرازقين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الرَّزَّاقُ في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فَعَّال من اسم الفاعل الرازِق، فعلُه رَزَقَ يَرْزقُ رِزقًا، والمصدر الرِّزْقُ، وهو ما يُنتَفعُ به والجمع أرزاق. (لسان العرب).

(2) هذا النوع من الرزق قد يكون من الحرام، وقد يكون من الحلال، فإنَّ ما يَتناوله العبدُ من الحرامِ هو داخلٌ في هذا الرزقِ، فالكفارُ قد يُرزَقون بأسبابٍ محرَّمةٍ ويُرزقون رزقًا حسنًا، وقد لا يُرزقون إلا بتكلُّفٍ، وأهل التقوى يَرزقُهم الله من حيثُ لا يحتسبون، ولا يكون رزقُهم بأسبابٍ محرمةٍ ولا يكون خبيثًا. (مجموع الفتاوى).

(3) ليست العبرة بكثرة الرزق، ولكن بالبركة فيه؛ فقد يَحرِمُ الله -عز وجل- عبده الصالح شيئًا من الدنيا رحمة به ورِفقًا ولُطفًا، فالتقيُّ لا يُحرَمُ ما يحتاجُ إليه من الرِّزقِ، وإنما يُحمَى من فضولِ الدنيا رحمةً به وإحسانًا إليه، فإِنَّ توسيعَ الرِّزقِ قد يكونُ مضَرَّةً على صاحبه، وتقديرَهُ قد يكونُ رحمةً لصاحبِهِ. (مجموع الفتاوى).

(4) قصة مِن واقعنا: "يحكي أحد الدعاة إلى الله: أن رجلًا صالحًا مرَّت به ضائقة مالية، واشتدت الأحوال حتى إنه صار لا يجد نفقة يومه، وذات يوم كان يتحدث مع أهله في شأن النفقة حتى حدث بينهما خلاف كاد أن يؤدي إلى الانفصال. وفي هذه الأثناء قامت الزوجة بفتح نافذة في الحجرة التي يجلسون فيها، فإذا بابن عمها -تارك للصلاة ويشرب المخدرات وغير ذلك من المعاصي- يدخل بسيارته الفارهة إلى فناء البيت، فجعل الشيطان يوسوس لها ليشعل الخلاف بين الزوجين: ألم يكن خيرًا لكِ أن تتزوجي ابن عمك الذي كان يريدك قبل هذا الرجل الذي تزوجتِه للصلاح؟ فماذا فعل صلاحُه وأنتم لا تجدون أسباب العيش؟!

ويشاء (الرزاق-) سبحانه- بعد دقائق من المشهد أن أحد أفراد الأسرة ينادي على الزوج الصالح، بأن هناك رجلًا على باب البيت الخارجي يريده! فنزل الزوج ينظر ما شأن الرجل، فإذا بهذا الرجل يأتي له بمبلغ من المال ويقول: هذا المال حقٌّ لك عليَّ منذ سنوات! كنت أخذته بغير حق من مالك الذي كنت أقوم عليه، وأنا تبتُ إلى الله من هذا وغيره، فأرجو أن تسامحني على ذلك، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2- 3).