كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ . وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 25-29).
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك. (قلتُ: قوله: من واجبات الحج لا يعني به التقسيم المعروف إلى ركن وواجب ومستحب، ولكنه يعني مما أوجبه الله في الحج، وهو ركن باتفاق العلماء).
قال: المسألة الثانية والعشرون للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق، وعن المكي، وعن كل من يحرم بالحج من مكة.
قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله -تعالى-: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله -عز وجل-، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر -يعني ابن عبد البر-: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب، وابن نافع، وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز، والعراق.
وقد روى ابن القاسم، وابن عبد الحكم عن مالك: أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة، ورواه أيضًا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطًا منه، أو نسي السعي أو شوطًا منه حتى رجع إلى بلده، ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت، ويركع، ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب النساء رجع، فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعًا واجبان، والسعي أيضًا.
وأما طواف الصدر -وهو المسمى بطواف الوداع-: فروى ابن القاسم، وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض؛ إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه.
وكذلك أجمعوا أن مَن فعل في حجه شيئًا تطوَّع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة؛ إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع.
ورواية ابن عبد الحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسعَ حين دخوله مكة مع الهدي أيضًا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب، ولطواف الإفاضة واجب؛ لأن بعضهما ينوب عن بعض؛ ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله -عز وجل- لم يفترض على الحاج إلا طوافًا واحدًا بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)، وقال في سياق الآية: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف.
وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرًا عن قوله -تعالى-: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه -عليه السلام- رَخَّص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب" (انتهى من تفسير القرطبي).
(قلتُ: القول بأن طواف القدوم واجب إنما هو لمن قَدِم مكة وأتى المسجد؛ فهذا يجب عليه طواف القدوم، وأما من ذهب إلى منى أو عرفه مطلقًا ابتداءً فليس عليه شيء؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عروة بن مضرس، وقد كان في المشعر الحرام صباح يوم النحر: (مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)؛ فهذا الحديث نصٌّ في عدم وجوب طواف القدوم لمَن لم يأتِ مكة، أو لمن ذهب إلى عرفة مباشرة، وكذلك القول بأن طواف القدوم يعني عن طواف الإفاضة خلاف الصواب؛ لنقل ابن جرير الإجماع على أن قوله -تعالى-: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ): أنه طواف الإفاضة، والأقوال الأخرى شاذة؛ فإذا كان هذا هو المأمور به فلا يتم الحج إلا به، وهو ركن من الأركان ولا ينوب عنه شيء إلا أنه يصح أن ينوي طواف الإفاضة والوداع معًا؛ لأن طواف الوداع واجب وليس بنُسُك؛ لأن الحاج يؤديه بعد قضاء نسكه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا) (رواه مسلم)، فهو إذًا يقيم ثلاث ليال بعد قضاء نسكه ولم يطف طواف الوداع؛ لأنه إنما يطوفه بعد أن يقضي بمكة ما شاء أن يقضي ثلاثة أيام؛ لذلك قلنا: هو واجب وليس بنسك، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.