كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط شرعي: لفظ الفرح؛ لأن هناك من يُسمِّي المعصية فرحًا، كمن يجعل احتفاله بالزواج -الذي هو نعمة من الله تعالى- بالمعاصي، ويقول: إنه فرح، إنها ليلة العمر!
وكمن يفرح بالرزق الحرام ولا يُبالي، وكمن يفهم قول الله -تعالى-: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: 76) فهمًا خاطئًا؛ فإذا رأى أحدًا يفرح بنعمة من نِعَم الله عليه، يقول له: إن الله قد نهى عن الفرح، ويتلو هذه الآية!
وكلٌّ مخطئ، والصواب: أن الفرح إما أن يكون محمودًا أو مذمومًا بحسب متعلَّقه.
أما الفرح المحمود: فهو رؤية العبد فضل ربه -تعالى- عليه في الإسلام والإيمان والإحسان، والتوفيق والسداد لطاعة الرحمن، والتثبيت وقت الفتن والعصمة منها، وهذا الفرح أمر الله تعالى به عباده المؤمنين؛ فقال -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).
قال أبو سعيد الخدري وابن عباس -رضي الله عنهم-: "( بِفَضْلِ اللَّهِ): القرآن. (وَبِرَحْمَتِهِ): أن جعلكم من أهله." وقال قتادة والحسن: الإسلام والقرآن.
)خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ): قال ابن عباس: الأموال وغيرها، وكذا قال عمر -رضي الله عنه-؛ فقد روى الطبراني بسنده عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: "لما قدم خراج العراق إلى عمر -رضي الله عنه- خرج عمر ومولاه؛ فجعل عمر يعُدُّ الإبل فإذا هي أكثر من ذلك، فقال عمر: الحمد لله تعالى. ويقول مولاه: هذا من فضل الله ورحمته. فقال عمر: كذبت -أي: أخطأت- ليس هذا هو الذي يقول الله -تعالى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ?لِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)، وهذا مما يجمعون".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: بهذا الذي جاءهم من الهدى ودين الحق فليفرحوا؛ فإنه أولى ما يفرحون به، هو خير مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة".
فبفضل الله ورحمته اهتدى العبد، ولولاه ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلينا، وبفضل الله ورحمته كان الثبات والعصمة، وكان حفظ القرآن والعلم، وكل ما فيه العبد من نعمة فهو بفضل الله -تعالى- ورحمته؛ لأنه المنعِم بها، والمسبِّب لها.
ولقد كان هذا هو فرحه -صلى الله عليه وسلم-؛ يفرح بدخول الناس في الإسلام، وبحصول البر والخير، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا فرح سُرَّ واستنار وجهه كأنه فلقة قمر، لما أسلم عكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنه-، وجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا "وثب إليه -صلى الله عليه وسلم- فرحًا" (رواه البيهقي عن عروة). ولما أرسل إليه -صلى الله عليه وسلم- عليٌّ -رضي الله عنه- بإسلام أهل اليمن سجد لله شكرًا (رواه البيهقي في دلائل النبوة). ولما أسلم عديُّ بن حاتم -رضي الله عنه- قال عديٌّ: "فرأيت وجهه ينبسط فرحًا -صلى الله عليه وسلم-" (رواه الترمذي وحسَّنه الألباني).
ولما نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا -رضي الله عنهم- جاء كعب بن مالك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد؛ فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك" (متفق عليه). ولما دعا الناس إلى التصدُّق، واستبطأوا، فقام أحد الأنصار، وجاء بصُرة من وَرِق، ووضعها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتابع الناس في الصدقة، حتى رأى كومة من الصدقة، تهلَّل وجهه -صلى الله عليه وسلم- كأنه مُذهَّبة (رواه مسلم).
ولما دخل مُجزِّز المُدلجي -وكان عارفًا بالقِيافة- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده زيد وأسامة ابنه -رضي الله عنهما- نائمان، وعليهما قطيفة قد غطيا بها رؤوسهما، وبدت أقدامهما، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض؛ ففرح -صلى الله عليه وسلم-، واستنار وجهه، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- (رواه البخاري).
قال أبو داود: نقل أحمد بن صالح عن علماء النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد، وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائل ما قال مع اختلاف اللون، سُرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك. (ينظر: فتح الباري).
ولما نزلت الآيات ببراءة عائشة -رضي الله عنها- وسُرِّي عنه -صلى الله عليه وسلم- قالت عائشة: وإني أتبيَّن السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه، ويقول: "أبشري يا عائشة؛ فقد أنزل الله براءتك" (رواه البخاري).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.