كتبه/ محمد سعيد الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنبِيَاءِ، وَقَد غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا)، وفي رواية في المسند: (فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلِيَقْضِ بَيْنَنَا).
يذهبون إلى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- لعلَّ الفَرَجَ يكون على يديه؛ فيطلبون منه أن يشفع إلى الله -عز وجل- لبدء الحساب، ويذكرون له المؤهِّلات التي تؤهله لهذا المقام العظيم الذي اعتذر عن القيام به آدم -عليه السلام-، وأولو العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وهم سادة الرسل بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فيقولون له: (يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟)؛ عند ذلك لا يُخيِّبُ ظنَّهم، ولا يردُّ رجاءَهم، ويقول لهم: (أَنَا لَهَا)، وفي رواية مسند عبد بن حُميد: (فَأَنْطَلِقُ مَعَهُمْ).
ويقومُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- المقام المحمود الذي يحمَدُهُ عليه الأولون والآخرون لسببين:
الأول: أنه المقام الذي وعَدَهُ الله إياه في الحياة الدنيا في قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء: 79)؛ إنه مقامٌ لا ينبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وقد خصَّ اللهُ به رسولَهُ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- دون غيره من الأنبياء والرسل.
الثاني: أنَّ أولي العزم من الرسل أشفقوا على أنفسهم مِن هَول ذلك اليوم الذي: (قَد غَضِبَ الله فيه غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)، كما جاء في روايةِ كعب الأحبار، قال: (فَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَتَذْهَلُ الْعُقُولُ، فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرِئٍ إِلَى عَمَلِهِ، حَتَّى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ يَقُولُ: بِخُلَّتِي لا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، وَيقُولُ مُوسَى: بِمُنَاجَاتِي لا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، وَأَنَّ عِيسَى لَيقُولُ: بِمَا أَكْرَمْتَنِي لا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، لا أَسْأَلُكَ مَرْيمَ الَّتِي وَلَدَتنِي، وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، لا أَسْأَلُكَ الْيوْمَ نَفْسِي).
وفي روايةٍ في المسند، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ -عز وجل- أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ؟ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ، فَنَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، فَتُفْرَجُ لَنَا الأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ، وَتَقُولُ الأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا، ثُمَّ آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ؛ فَأَقْرَعُ الْبَابَ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُول: مُحَمَّدٌ، فَيُفْتَحُ لِي، فَأَرَى رَبِّي -عز وجل-وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَوْ سَرِيرِهِ؛ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا...).
وفي رواية الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَنطَلِقُ، فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي -عز وجل-)، وفي روايةٍ في المسند: (فَيَخِرُّ سَاجِدًا قَدْرَ جُمُعَةٍ)، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ -أي: تُقبل شفاعتك-؛ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ -وهم سبعون ألفًا وهم أول مَن يدخلها-، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ).
هُنا يبدأ الحساب بدخول مَن لا حسابَ عليهم الجنة مِن أمة الإسلام، لأنَّ أمةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- هي أول الأمم التي ستُحاسَب، فإذا حاسب الله هذه الأمة؛ فإنَّ ذلك يكون إيذانًا بحساب باقي الأمم والفصل بينهم، ثُمَّ ذكر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَعَةَ الأبواب، فقال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ -جانبا الباب- مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ -أي: صنعاء- أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى -مدينة بالشام-).
أسأل الله -تعالى- أن يُعَلِّمَنَا ما ينفعنا، وأن يَنْفَعَنَا بما عَلَّمَنَا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.