كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتُعَدُّ الصين حاليًّا ثاني أكبر شريك تجاري مع دول أمريكا اللاتينية بعد الولايات المتحدة؛ حيث نجحت الصين في توثيق علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع هذه الدول، وأصبحت مصدرًا رئيسيًّا للإقراض وتنفيذ المشروعات وللاستثمار الأجنبي المباشر في مجالات الطاقة والبنية التحتية، كما قامت أيضًا بتعزيز علاقاتها العسكرية مع عدد من دول أمريكا اللاتينية، في مقدمتها: فنزويلا.
وقد قام الرئيس الصيني السابق (زيمين) في عام 2001 بجولة تاريخية في أمريكا اللاتينية دامت 13 يومًا، أبرم خلالها العشرات من اتفاقيات التبادل السياسية والاقتصادية رفيعة المستوى مع دول المنطقة، ثم قام بعدها الرئيس الصيني (شي جين بينج) أيضًا بزيارة المنطقة مرات كثيرة منذ تولِّيه منصبه عام 2013، وقَّع خلالها العديد من الاتفاقيات الثنائية والشراكات الإستراتيجية الشاملة. وقد أثار هذا النفوذ المتزايد للصين في المنطقة مخاوف الولايات المتحدة، حيث تُعَدُّ أمريكا اللاتينية بمثابة الفناء الخلفي والامتداد الإستراتيجي للولايات المتحدة.
ويمكن تقسيم التطوُّر في العلاقات بين الصين ودول أمريكا اللاتينية إلى أربع مراحل:
الأولى: كانت فيها اعتراف معظم دول أمريكا اللاتينية بحكومة (ماو تسي تونج) الصينية في أعقاب الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي (نيكسون) للصين في عام 1972.
الثانية: كانت فيها بداية الانفتاح الصيني على المنطقة في أواخر التسعينيات حتى عام 2013.
الثالثة: التي تم فيها تكثيف العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول المنطقة بشكل إستراتيجي.
الرابعة: التي شهدت تسخير الصين لمواردها وقدراتها التصنيعية خلال أزمة جائحة كورونا لتقديم الأدوات والمعونة الطبية والوقائية لدول العالم، ومنها: دول أمريكا اللاتينية؛ مما ساهم في تعزيز صورة الصين في المنطقة.
وتتمثَّل دوافع الصين لتقوية وتعزيز علاقاتها بدول أمريكا اللاتينية في عدة أمور، منها:
تحقيق الأمن في مجال الطاقة:
فاستهلاك الصين من البترول يتضاعف، بينما إنتاجها من البترول لا يكفي، وقد ارتفع استهلاك الصين من البترول من 4.7 مليون برميل يوميًّا عام 2000 إلى 10.8 مليون برميل يوميًّا عام 2015. ومن المتوقَّع تزايد واردات الصين من البترول ليصل في عام 2040 إلى نحو 70% من الاستهلاك الصيني للبترول. وتمتلك أمريكا اللاتينية ثاني أكبر احتياطي للبترول في العالم بعد الشرق الأوسط، مما يمثِّل حافزًا للصين لتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة. وتُعَدُّ البرازيل أكبر مصدِّر للبترول الخام في المنطقة، حيث تشكِّل صادرات البرازيل من البترول إلى الصين ما يقرب من 47% من إجمالي صادراتها لعام 2021.
الحصول على المواد الخام والمعادن:
حيث تسعى الصين إلى الحصول بانتظام على المواد الأولية والمعادن للحفاظ على تزايد نموها الاقتصادي، حيث تستهلك الصين نحو نصف الإنتاج السنوي في العالم من المعادن اللازمة للصناعة، مما يستدعي وجود سلسلة دائمة من الواردات من هذه المعادن الصناعية، وتزخر دول أمريكا اللاتينية بالكثير من المعادن الثمينة مثل النحاس والذهب والفضة والنيكل والكوبالت والحديد والنيوبيوم والألمنيوم والزنك والرصاص والقصدير والليثيوم والكروم وغيرها. ففي سلسلة (جبال الأنديز) الواقعة في قارة أمريكا الجنوبية، توجد احتياطات هائلة من النحاس تشكِّل نحو 35% من الاحتياطات العالمية.
وتُعَدُّ شيلي أكبر منتج للنحاس في العالم، بينما تُعَدُّ البرازيل أكبر منتج للنيوبيوم في العالم وثاني أكبر منتج للحديد، وهي الثالثة عالميًّا في إنتاج التنتالوم، بينما تُعَدُّ المكسيك أكبر منتج للفضة، وتُعَدُّ بوليفيا من الدول الرائدة في إنتاج القصدير.
تحجيم علاقة تايوان بدول أمريكا اللاتينية:
تسعى الصين دائمًا في علاقاتها الخارجية إلى حشد الدعم لسياسة (الصين الواحدة)، وعدم الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة، وهو ما يظهر جليًّا من خلال التغلغل الاقتصادي والسياسي للصين في أمريكا اللاتينية. فمنذ عام 2016، قامت خمس دول من أمريكا اللاتينية بتحويل اعترافها من تايوان إلى الصين، ولم يعد لتايوان علاقات دبلوماسية مستقرة إلا مع سبع دول فقط من أمريكا اللاتينية، منها خمس من صغار الدول.
تقوية وضع الصين في منطقة (الإندوباسيفيك):
تُعَدُّ منطقة (الإندوباسيفيك) بمثابة الفناء الخلفي والامتداد الإستراتيجي للصين، وبالتالي أحد أهم ساحات الصراع بينها وبين الولايات المتحدة، كما تُعَدُّ منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي الامتداد الإستراتيجي للولايات المتحدة، كما أن بمنطقة أمريكا اللاتينية توجد (قناة بنما)، التي تُعَدُّ إحدى نقاط العبور الحيوية للتجارة الأمريكية والعالمية. وعلى هذا، تتنافس وتتصارع كل من الدولتين -الولايات المتحدة والصين- على مد النفوذ إلى كلتا المنطقتين والامتدادين ومواجهة نفوذ الآخر فيهما.
ومن أهم آليات الصين لتعزيز علاقاتها بأمريكا اللاتينية:
تقديم القروض الحكومية:
فللانخراط الاقتصادي في دول أمريكا اللاتينية، تبنَّت الصين تقديم القروض الحكومية لدول المنطقة، حيث احتلَّت تلك المنطقة المرتبة الثانية بعد القروض المقدَّمة من الصين للدول الآسيوية، حيث بلغت القروض للمنطقة خلال الفترة من 2008 إلى 2021 نسبة 26% من القروض الصينية الخارجية. وقد بلغت تلك القروض للمنطقة ذروتها في الفترة ما بين عامي 2007 إلى 2016، حيث بلغ متوسط الإقراض فيها أكثر من 10 مليارات سنويًّا. ومنذ 2016، بدأت تتضاءل نسبة القروض الحكومية الصينية لحساب التوسُّع في تمويل الصين لأنشطة القطاع الخاص في المنطقة.
التوسُّع في ضخ الاستثمارات الصينية:
فبينما كان الإقراض الحكومي الصيني ينخفض، كان الاستثمار الصيني في أمريكا اللاتينية يتزايد باضطراد، فبعد أن كانت نسبة الاستثمارات عام 2000 نحو 0.1% فقط، فقد بلغت نحو 8.5% بحلول عام 2021. فبينما بلغت الاستثمارات الصينية 8.4 مليار دولار في الاتحاد الأوروبي وبلغت 4.7 مليار في الولايات المتحدة في عام 2022، فقد سجَّلت الاستثمارات الصينية في دول أمريكا اللاتينية ما يتراوح ما بين 7 إلى 10 مليارات دولار، أي أن الاستثمارات الصينية في دول أمريكا اللاتينية أكبر من استثماراتها في الاتحاد الأوروبي وفي الولايات المتحدة، مما يعكس أهمية تلك المنطقة بالنسبة للصين. ويشكِّل قطاع البترول والغاز ما يقرب من 30% من حجم تلك الاستثمارات الصينية في المنطقة، إلى جانب قطاع الطاقة المتجددة والمشروعات المتعلقة بالليثيوم وكذلك قطاع التعدين وقطاع البنية التحتية والسكك الحديدية.
ويرجع خفض الصين للقروض الخارجية لدول أمريكا اللاتينية وزيادة الاستثمارات الصينية الخارجية فيها لعدة أسباب، منها:
- حاجة الصين في بداية الأمر إلى أن تتغلغل لتكوين شبكة علاقات ومشروعات ضخمة لترسيخ وجودها في أمريكا اللاتينية.
- التخوُّف من إثقال دول المنطقة بالديون، ومنعًا من تعزيز ادعاءات الغرب أن الصين تقوم بإغراق الاقتصاديات الناشئة بالديون.
- التحوُّل من نمط القروض الحكومية إلى نمط التمويل الاستثماري يُعَدُّ أقل تكلفة وأكثر ربحًا.
زيادة معدلات التبادل التجاري:
حدثت طفرات على صعيد الصادرات الصينية لأمريكا اللاتينية حتى أصبحت الصين حاليًّا الشريك التجاري الثاني لأمريكا اللاتينية. ففي عام 2000، كانت الصادرات الصينية إلى أمريكا اللاتينية أقل من 2%، ومع النمو الاقتصادي السريع للصين مدعومًا بزيادة الطلب على السلع الصينية، نمت التجارة بين الصين والمنطقة بمعدل سنوي متوسط قدره 31% لتصل إلى 180 مليار دولار في عام 2010، وبحلول عام 2021، بلغ إجمالي التبادل التجاري رقمًا قياسيًّا قدره 450 مليار دولار، وظل الأمر دون تغيير كبير عام 2022. وتتمثَّل صادرات أمريكا اللاتينية إلى الصين في فول الصويا والنحاس والبترول والمواد الخام التي تحتاجها الصين في دفع التنمية الصناعية فيها، وفي المقابل، تستورد أمريكا اللاتينية من الصين منتجات صينية مصنَّعة ذات قيمة مضافة أعلى. وقد صدرت دول أمريكا اللاتينية بضائع بقيمة تقدَّر بنحو 184 مليار دولار أمريكي إلى الصين واستوردت بضائع بنحو 265 مليار دولار عام 2022. وقد قامت السلفادور بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تايوان، مما يُعَدُّ انتصارًا اقتصاديًّا وسياسيًّا للصين. كما سعت الصين إلى تعزيز وضع اليوان (عملة الصين) ضمن سلة العملات العالمية، وفي هذا الإطار، توصلت البرازيل والصين إلى الاتفاق على تسوية كافة المدفوعات التجارية بينهما باليوان الصيني.
تعزيز التعاون الأمني والدفاعي:
سعت الصين بقوة إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع دول أمريكا اللاتينية من خلال تقديم دورات تدريبية وبرامج لبناء القدرات العسكرية في المنطقة، وتصدير الأسلحة إليها، وفي مقدمة تلك الدول فنزويلا والأرجنتين والإكوادور. وقد أجرى كبار قادة الجيش الصيني عشرات الزيارات إلى المنطقة للقاء نظرائهم في المنطقة. وتُعَدُّ فنزويلا أكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الصينية في أمريكا اللاتينية، خاصة عقب حظر الحكومة الأمريكية جميع مبيعات السلاح لفنزويلا ابتداءً من عام 2006. وقد صدرت الصين ما قيمته 629 مليون دولار من الأسلحة إلى فنزويلا بين عامي 2006 و2022، كما اشترت الأرجنتين وبوليفيا والإكوادور وبيرو طائرات عسكرية صينية ومركبات أرضية ورادارات دفاع جوي بملايين الدولارات من الصين. بينما سعت كوبا إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع الصين، حيث استضافت مسؤولين رفيعي المستوى من الجيش الصيني في عدة زيارات لمواني كوبا.
ومن المتوقَّع مستقبلًا استمرار وتنامي العلاقة بين الصين وبين دول أمريكا اللاتينية، خاصة مع تزايد سياسة تضييق الخناق وفرض القيود على الاستثمارات الصينية من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لاسيما مع البرازيل بعد عودة (لولا دا سيلفا) للحكم، وكذلك في ظل وجود قادة من تيار يسار الوسط على رأس أنظمة سياسية في أمريكا اللاتينية، مما يدعم أن تصبح منطقة أمريكا اللاتينية المرشَّح الأول لاستقبال الاستثمارات الصينية التي كانت موجَّهة للسوقين الأمريكي والأوروبي.
ويُعَدُّ استمرار وتنامي تلك العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الصين ودول أمريكا اللاتينية متوقِّفًا على أمرين:
الأول: قدرة الطرفين على تطوير أسس متوازنة للعلاقات الاقتصادية بينهما، خاصة مع تعالي الأصوات داخل دول أمريكا اللاتينية التي تنادي بأن إغراق الصين للمنطقة بالبضائع الرخيصة يؤثِّر سلبًا على القاعدة الصناعية في المنطقة.
الثاني: قدرة دول أمريكا اللاتينية على تعظيم الاستفادة من التعاون الاقتصادي مع الصين والولايات المتحدة دون الدخول في المنافسة والصراع بينهما أو تأييد طرف على حساب الطرف الآخر.
التواجد الروسي في أمريكا اللاتينية:
تسعى روسيا بقوة إلى انتهاج سياسة خارجية نشطة لتوسيع نفوذها في العالم في مواجهة العزلة السياسية والاقتصادية التي تحاول الولايات المتحدة وأوروبا الغربية فرضها عليها، خاصة بعد عملياتها العسكرية في أوكرانيا. لذا، تعمل روسيا على تعزيز وجودها في أمريكا اللاتينية، وقد نجحت في ذلك نسبيًّا، فعلى الرغم من أن معظم دول أمريكا اللاتينية أدانت روسيا في حربها مع أوكرانيا، لكن معظم هذه الدول لم تتبع الولايات المتحدة والدول الغربية في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا.
ولروسيا علاقاتها مع الأنظمة اليسارية في كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا، ولها تعاون اقتصادي على نطاق واسع مع البرازيل والأرجنتين، وكلتاهما أصبحتا تعتمدان على الأسمدة الروسية اللازمة لقطاعاتهما الزراعية ذات الأهمية الاقتصادية، كما وسَّعت روسيا تدريجيًّا من علاقاتها التجارية مع دول أخرى في أمريكا اللاتينية، وتنشط الشركات الروسية في مجال الغاز والبترول وفي قطاع المعادن الحيوي. ويضع تنافس الولايات المتحدة والغرب مع الصين وروسيا في أمريكا اللاتينية دول المنطقة في موقف صعب.
وقد زادت التجارة الثنائية بين روسيا ودول أمريكا اللاتينية بنسبة 21.5% خلال الفترة من 2011 إلى 2021، مع تحقيق روسيا لفائض تجاري بلغ 3.7 مليار دولار أمريكي. ويرجع هذا التحسُّن في حجم التبادل التجاري بين الطرفين إلى زيادة التجارة بينهما في المنتجات البترولية والآلات والمنتجات الزراعية والأسمدة. وتُعَدُّ الاستثمارات الروسية المباشرة في أمريكا اللاتينية منخفضة مقارنة بالولايات المتحدة والصين. وتأتي بيرو والبرازيل والإكوادور وكولومبيا في مقدمة دول المنطقة في الاستثمارات الروسية، وتتركَّز معظم هذه الاستثمارات في قطاعات الاستخراج مثل المعادن والبترول والغاز.
ولروسيا أيضًا تعاون مع دول أمريكا اللاتينية في مجال الطاقة النووية السلمية من خلال اتفاقيات مع البرازيل وباراجواي وجمهورية الدومينيكان وكوبا وتشيلي لتعزيز ذلك التعاون؛ هذا إلى جانب استثمارات في السيارات وتكنولوجيا المعلومات والفضاء في بيرو وجامايكا وجيانا، إلى جانب التوسُّع التدريجي في الاستثمارات في مجال الصناعة الكيميائية وفي قطاع الاتصالات.
وقد مُنِيت روسيا بانتكاسة في علاقاتها السياسية في أمريكا اللاتينية في أعقاب فوز (خافيير ميلي) الليبرالي المتطرف برئاسة الأرجنتين في نوفمبر 2023، والذي أعلن عدم انضمام بلاده إلى تجمُّع (بريكس) بقيادة روسيا، وفي المقابل، يسعى إلى تعميق علاقة الأرجنتين مع الولايات المتحدة. ولكن، في المقابل، جاءت عودة الرئيس (لولا دا سيلفا) إلى الحكم في البرازيل في أكتوبر 2022، مع تولِّي حكومات يسارية الحكم والسلطة في كل من بوليفيا وكولومبيا وتشيلي وبيرو لتعزِّز من وضع روسيا السياسي في مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وقد سعت روسيا لتعزيز حضورها الدبلوماسي والسياسي في أمريكا اللاتينية من خلال تكثيف علاقاتها الدبلوماسية الثنائية وتبادل الزيارات رفيعة المستوى، فالحفاظ على العلاقات الودية مع دول المنطقة تُعَدُّ وسيلة روسيا الفعَّالة لاكتساب العمق الإستراتيجي المطلوب في المنطقة.
وعلى صعيد التعاون الأمني والاستخباراتي: تُعَدُّ أمريكا اللاتينية أرضًا مألوفة بالنسبة لوكالات الاستخبارات الروسية. ويوجد في المكسيك أكبر عدد من ضباط المخابرات الروسية المتمركزين خارج روسيا؛ لذا تُعَدُّ المكسيك بمنزلة نقطة عبور للمخابرات الروسية، فهناك العديد من نشطاء العملاء الروس يعملون في أوروبا باستخدام جوازات سفر من دول أمريكا اللاتينية.
وفي مجال التعاون العسكري مع دول المنطقة: فقد شهد العقدان الأخيران حضورًا روسيًّا متزايدًا تمثَّل في بيع روسيا لأنظمة صاروخية متقدِّمة مضادة للطائرات لدول في المنطقة، وأيضًا المساهمة في تقديم برامج تدريب عسكري للضباط في أمريكا اللاتينية. وقد نشرت روسيا أسطولًا من أربع سفن حربية في فنزويلا عام 2008 بقيادة طرَّاد يعمل بالطاقة النووية. ويُعَدُّ الاحتفاظ بتواجد عسكري روسي في تلك المنطقة ذا مغزى أمام التحديات الدولية والمنافسات التي تواجهها روسيا.
ومع ذلك كله، فإن المصالح الروسية في أمريكا اللاتينية تُعَدُّ مصالح سياسية في الأساس بغرض منافسة النفوذ الأمريكي، إذ لا تملك روسيا الموارد والقدرات اللازمة لكي تصبح شريكًا اقتصاديًّا رئيسيًّا أو منافسًا قويًّا في المنطقة قادرًا على منافسة الاستثمارات الأمريكية.
ومن مجالات التعاون بين روسيا وأمريكا اللاتينية مجال التبادل الطلابي، فهناك زيادة مطَّردة في أعداد طلاب أمريكا اللاتينية الذين يدرسون في روسيا من خلال المنح الروسية.
التحرُّك الأمريكي في مواجهة النفوذ الصيني:
تُعَدُّ أمريكا اللاتينية بمثابة الفناء الخلفي والامتداد الإستراتيجي للولايات المتحدة؛ لذا فإن استقرار الولايات المتحدة وأمنها يتأثَّر ويرتبط باستقرار وأمن تلك المنطقة. لذا، تبنَّت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى عقود مبدأ (مونرو) الذي أعلنه الرئيس الأمريكي (جيمس مونرو) عام 1823، ويقوم على رفض أي تدخُّل أجنبي في دول الجوار في أمريكا اللاتينية، وهو المبدأ الذي تستند إليه الولايات المتحدة للتدخُّل في الشؤون الداخلية لدول أمريكا اللاتينية، رغم أنه مما يثير غضب حكومات وشعوب في تلك المنطقة.
وقد سعت إدارة الرئيس السابق (بايدن) وكذلك الرئيس الحالي (ترامب)، سواء في فترة رئاسته الأولى أو في فترته الثانية الحالية، إلى إعادة تفعيل العمل بمبدأ (مونرو) في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة المناوئ للهيمنة الأمريكية عالميًّا.
من سمات سياسة إدارة بايدن تجاه أمريكا اللاتينية:
نظرًا لأن (بايدن) يمتلك خبرة واسعة بأمريكا اللاتينية؛ إذ إنه كان من الساسة الأمريكيين الذين شاركوا في المفاوضات المرتبطة بمعاهدة (قناة بنما) عام 1978، والتي منحت بنما السيادة الكاملة على القناة والأراضي المجاورة لها، كما قاد بايدن خلال تولِّيه منصب نائب الرئيس الأمريكي (أوباما) الحوار الاقتصادي للإدارة الأمريكية مع المكسيك والمناقشات الأخرى حول عدد من القضايا الأمنية، وفي مقدمتها قضية الهجرة غير المشروعة؛ لذا اتَّخذ الرئيس بايدن خلال فترة حكمه للولايات المتحدة إجراءات تنم عن توجهه السياسي، ومنها:
تبنِّي الشعارات التي قادتها الإدارات الأمريكية السابقة، مثل نشر الديمقراطية وتعزيز مبادئها ومكافحة الفساد والتعاون من أجل حل المشكلات والقضايا العالقة بصورة جماعية. هذا مع غض الطرف عن بعض الملفات العالقة، كالهجرة غير الشرعية.
تعيين عدد من المسؤولين ممن يمتلكون خبرة دبلوماسية واسعة في أمريكا اللاتينية، كما قام بتعيين عدد من الدبلوماسيين والسفراء الجدد ببعض السفارات والقنصليات الأمريكية بدول المنطقة، والتي ظلَّت فارغة غير مشغولة طوال فترة حكم إدارة ترامب الأولى.
عقد (قمة الأمريكتين) في عام 2022، التي ضمَّت حلفاء الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية والجنوبية، مع استبعاد كلٍّ من فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا من المشاركة في القمة.
إفساح المجال أمام عدد من دول أمريكا اللاتينية المجاورة لتعزيز روابطها وشراكاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة في ظل تقليل حجم التجارة الثنائية بين أمريكا والصين خلال الحرب التجارية والتكنولوجية التي شنَّها الرئيس ترامب خلال فترة حكمه الأولى، مما ترتَّب عليه تصدُّر المكسيك في عام 2023 قائمة الشركاء التجاريين للولايات المتحدة متجاوزة الصين، بينما احتلَّت كندا المرتبة الثانية، بينما تراجعت الصين إلى المركز الثالث.
تبنِّي سياسة مغايرة لسياسة ترامب في فترة حكمه الأولى تجاه المهاجرين غير الشرعيين بغرض التقليل من الضرر الناجم عن سياسة منع الهجرة التي اتَّخذها ترامب قبله، مع إعادة تفعيل العديد من برامج المساعدات لأمريكا الوسطى وتشجيع الشركات المتعددة الجنسيات على الاستثمار في دول أمريكا اللاتينية لتوفير فرص عمل فيها، مما يحدُّ من الهجرة للعمل في أمريكا.
في مواجهة أزمة الجريمة المنظَّمة العابرة للحدود، والتي تُعَدُّ أحد أبرز التحديات الأمنية القادمة للولايات المتحدة من دول أمريكا اللاتينية، حيث تُعَدُّ دولها من أهم مراكز الجريمة المنظَّمة، خاصة في مجالات تهريب المخدرات ونقل السلاح والاتجار في البشر، عملت إدارة بايدن على تحسين العلاقات مع المكسيك، التي كانت قد تراجعت وتدهورت كثيرًا خلال فترة حكم ترامب الأولى، في محاولة من الطرفين لتعزيز إجراءات مكافحة تجارة المخدرات ومكافحة الجريمة المنظَّمة.
اتِّخاذ إجراءات أكثر تقدُّمًا في مجال مكافحة الفساد في أمريكا الوسطى، منها تشكيل فرقة عمل لمكافحة الفساد في السلفادور وجواتيمالا وهندوراس في يونيو 2021، ومعاقبة العديد من الجهات المتورِّطة في قضايا فساد كبرى في هذه الدول.
ولمواجهة تعزيز الصين وروسيا لشراكتهما التجارية مع دول أمريكا اللاتينية، حيث انضمت 20 دولة من دول أمريكا اللاتينية إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، واحتلال الصين خلال العقدين الأخيرين المرتبة الثانية كشريك تجاري لدول أمريكا اللاتينية بعد الولايات المتحدة، تبنَّت إدارة بايدن بعض الإجراءات الدفاعية لمجابهة النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، ومنها:
إعلان بايدن عن (مبادرة شراكة الأمريكتين) لقادة الرخاء الاقتصادي خلال انعقاد أعمال قمة الأمريكتين في نسختها التاسعة بمدينة لوس أنجلوس في يونيو 2022، وقد عُقِدت القمة الأولى لهذه الشراكة في الولايات المتحدة في نوفمبر 2023، والإعلان عن خطة شاملة لدفع النمو الشامل وتعزيز سلاسل التوريد الحيوية، مع التركيز على الطاقة النظيفة وأشباه الموصلات والإمدادات الطبية، على أمل أن تتحوَّل إلى إطار سياسي عام لتعزيز شراكة الولايات المتحدة الاقتصادية مع دول المنطقة وموازنة النفوذ الصيني فيها.
التعاون مع دول أمريكا اللاتينية في مجال التسلُّح بتمويل احتياجاتها من الأسلحة والمعدات العسكرية، مع تقديم التدريب وتوفير قطع الغيار والمساعدات التقنية الدائمة.
سعي ترامب إلى تغيير السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية:
صعد الرئيس الأمريكي ترامب في فترة حكمه الثانية الحالية من السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية تحت شعار (أمريكا أولًا)، وذلك بعد أن تحوَّلَت المنطقة إلى ساحة للصراع بين أمريكا والصين، وذلك من خلال عقوبات تجارية وفرض تعريفات جمركية، واتِّخاذ قرارات جديدة تتعلَّق بقضية الهجرة والتجارة والعلاقات الإقليمية، مما يعرِّض تلك الدول لتحديات كبيرة. وتُعَدُّ كولومبيا والمكسيك والبرازيل أكثر دول المنطقة تأثُّرًا. فمع بدء فترة رئاسته، قرَّر ترامب التراجع عن سياسات أمريكية وتحالفات استمرت لعقود، عملًا بالأولويات التي حدَّدها ترامب، ومنها الترحيل الجماعي للمهاجرين في الولايات المتحدة.
ويرى المحلِّلون السياسيون أن دول أمريكا اللاتينية قد: تنتهج سياسة التهدئة في التعامل مع ترامب مع ما تتعرَّض له من آثار سلبية على اقتصادها، أو تظهر الرغبة في التعاون مع الولايات المتحدة، أو تلجأ إلى التصعيد المحسوب بشكل محدود.