الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 19 مايو 2025 - 21 ذو القعدة 1446هـ

القلب لا القالب!

كتبه/ سالم أبو غالي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فليس كلُّ مَن قيل له "يا شيخ" صار عند الله من الأولياء، وليس كل من جلس بين الملتزمين، أصبح عند ربه من الصادقين.

فالظاهر لا يكفي، والهيئة وحدها لا تصنع مؤمنًا.

فكم من لحية وقصير ثوب، تخفي وراءها قلبًا غافلًا، وصلوات ضائعة، وقرآنًا مهجورًا، وخُلُقًا متقلبًا!

صرنا نرى التديُّن يُقاس بالمظهر، يفرح صاحبه بالثناء، ويأنس بمدح الناس، لكن حين تفتش في الخفاء، ترى فجوة بين ما يبدو وما هو كائن؛ يُؤذن الفجر، فلا يتحرك له ساكن!

ويُهجر القرآن، وتُنسى الأذكار، وتضيع السنن، ويُستهان بالمحرمات، ويُجامل الناس على حساب الحق، ويرفض النصح، ويُحب الظهور، ويرتكب الخطأ... دون وجل!

هذا ليس التزامًا، بل صورة جوفاء.

تديُّنٌ بلا روح، ومظاهر بلا عمق.

تعلُّقٌ بالشكل، وانفصال عن الجوهر.

ولا يُفهم من ذلك أننا نُقلِّل من شأن المظهر، فشعائر الظاهر جزء من هذا الدين، وإن كان الباطن هو الأصل؛ فإن للظاهر أثره، فهو مرآةٌ تعكس ما في القلب، وعلامةٌ -إن صدقت- على ما استقر في الداخل؛ فاللحية، وسكينة الهيئة، قد تكون من ثمار القلب الصالح، لكنها لا تكون دليلًا قاطعًا ما لم يوافقها صدقُ السريرة ونقاءُ النية. فكما أن الوردة لا تُخفي عبيرها، كذلك القلب العامر لا يلبث أن يفيض صدقه على الجوارح.

غير أن الخطر كل الخطر، أن نغترَّ بالعلامة وننسى الأصل؛ أن نتمسك بالقالب ونغفل عن الروح؛ أن نحرص على المظهر حتى نظن أن الصلاح كله فيه، ونترك القلب يتيه في الرياء والعجب والغفلة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ ‌صَلَحَ ‌الْجَسَدُ ‌كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه).

فصلاح الظاهر ثمرةٌ لصدق الباطن، والخلل يحصل حين نهتم باللباس ونتغافل عن القلب، وحين نحمل السنة على الأكتاف، ونُهملها في الخُلق والعمل؛ فالظاهر متى صدقه الباطن، كان نورًا على نور، أما إذا خالفه؛ صار قناعًا لا يلبث أن يسقط عند أول اختبار.

وقد نبَّهنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على خطر الانخداع بالمظاهر: فحين مرَّ رجل من الأشراف، وأثنى عليه أحد الصحابة رضي الله عنهم بحكم مكانته، ثم مر رجل فقير لا يُؤبه له، قال -صلى الله عليه وسلم-: (هَذَا ‌خَيْرٌ ‌مِنْ ‌مِلْءِ ‌الْأَرْضِ ‌مِثْلَ ‌هَذَا) (متفق عليه).

وكم من فقير في الظاهر، عظيم عند الله!  

وكم من متصدر في المجالس، خفيف في ميزان السماء!

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ ‌السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ ‌جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) ( متفق عليه).

وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم- كلمة تقطع الجدل: (إِنَّ اللهَ ‌لَا ‌يَنْظُرُ ‌إِلَى ‌صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ) (رواه مسلم).

ليس الإنسان بما يظهره من ملامح جسدية أو هيئات خارجية، بل بما يختبئ في قلبه من يقين وصدق وخشية؛ فكم من قلوب وقر فيها الإيمان فأنطقها الله بالحق، ورفع قدرها وإن لم تُرَ على منابر الشهرة أو في مظاهر الزهد المصطنعة.

كما قال بعض السلف: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه".

ذلك الشيء الذي لا تراه العيون، ولكنه يوزن في ميزان الله أثقل من الجبال؛ حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهو النحيف الجسم، الضعيف البنية: (مَا يُضْحِكُكُمْ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمَا ‌أَثْقَلُ ‌فِي ‌الْمِيزَانِ مِنْ ‌أُحُدٍ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

وهناك مِن الناس مَن لو نظر إليهم أهل الدنيا، لاحتقروهم لهزال هيئتهم وقلة حيلتهم، وهم عند الله من أقرب عباده، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ ‌لَوْ ‌أَقْسَمَ ‌عَلَى ‌اللهِ ‌لَأَبَرَّهُ) (رواه مسلم).

فليس الالتزام مظهرًا يُلبس فقط، ولا كلمات تُقال، بل حالٌ يملأ القلب، ويظهر في صدق العمل وصفاء السريرة، فلا تغتر بمن شد المسوح، بل انظر إلى نور يقينه وسكينة قلبه.

الالتزام الحقيقي لا يظهر فقط في صلاة الجماعة، بل يُختبر في البيت، مع الزوجة، مع الأبناء، في لحظات الغضب، وأوقات الضيق، وعند شدة الابتلاء؛ ذلك هو الميزان: من أنت حين لا يراك الناس؟

من أنت حين تُظلم، وتُبتلى، وتُجَرَّد من المديح؟

وللأسف، هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ؛ إنها ثمرة ضعف في الإيمان، حين لا يترسخ اليقين في القلب، فيبقى المظهر بلا سند، والسلوك بلا جذور.

وحين يَغلب الاهتمام بالهيئة دون تزكية النفس، يظهر الالتزام سريعًا، لكنه يذبل مع أول نسمة فتنة.

والاستعجال في سلوك طريق الطاعة دون علم أو تدرج، يجعل صاحبه هشًّا، لا يصمد أمام الشهوات؛ كما أن غياب العلم الشرعي يُفقد الشخص بصيرته، فيتديَّن بعاطفته لا بعقله، ويتكلم فيما لا يعلم، ولا يدرك عمق هذا الدين.

وإذا اجتمعت صحبة ضعيفة الهمة، انشغل المرء بالقشور، وتساهل في الذنوب، وانغمس في الدنيا، وغفل عن محاسبة نفسه؛ كل ذلك يزيد من قسوة القلب، ويُميت نور الطاعة.

وحين لا تكون هناك تربية إيمانية صادقة تقوم على المحاسبة، والمتابعة، والتزكية، يتحول الالتزام إلى عادة، والمظاهر إلى عادة، والكلام عن الدين إلى أداء تمثيلي مكرر لا يُغيِّر شيئًا في القلب ولا في الواقع؛ بل قد ترى رجلًا لا لحية له، لكنه يخاف الله في السر، يقرأ القرآن خاشعًا، ويراقب نفسه، ويبكي من ذنبه، فتتساءل: أيهما أقرب إلى الله؟

والجواب ليس عندنا، بل عند مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الإنسان قد يُهلكه ذنب خفي، كما أُخرج آدم عليه السلام من الجنة بذنب، وقد يُدخله الله برحمته الجنة، كما غفر لامرأة سقت كلبًا؛ فلا تغتر بمدح الناس، ولا تركن إلى ظنك بنفسك، بل حاسب قلبك، راجع نيتك، راقب خلواتك، واسأل نفسك: هل أنا كما يحبني الله؟

هل أنا كما أبدو أم كما في خلوتي؟

هل التزامي صدق أم مجرد مظهر؟

الجواب هناك... حيث لا يراك إلا الله.