كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة الثامنة:
قوله -تعالى-: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يدل على أن الاجتباء والاصطفاء هو لله -سبحانه وتعالى-، وهذا جزء من الإيمان بالقدر؛ لأن اختيار الله -عز وجل- لأنبيائه وأوليائه هو مَنُّه وفضلُه -سبحانه وتعالى- عليهم بطاعته وبالإيمان به، وأما النبوة فاجتباء خاص.
والله -سبحانه وتعالى- اختار أنبياءَه ورسله بعلمه وحكمته، وقد وضع الأشِياء في مواضعها، وهو محض فضله -سبحانه- عليهم؛ قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص: 68).
والخيرة في هذا الموضوع ليست بمعنى الإرادة المجردة، بل اختيار التكريم والتفضل، والتخصيص بنعم الدِّين والإيمان والنبوة؛ قال -سبحانه- لموسى -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) (طه: 13)؛ أي: اختاره الرب -سبحانه وتعالى- للرسالة والتكريم والتكليم.
وقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ? وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113).
وقال الله لعباده المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج: 77-78)؛ أي: هو -سبحانه- اجتبى عباده المؤمنين لدينه الذي لا حرج فيه عليهم، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- دون الأديان الأخرى: كاليهودية، والنصرانية، وغيرها، وإن انتسب أصحابها إلى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-.
وإنما أولياء إبراهيم هم النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون بعد أتباع إبراهيم في زمنه وعبر الزمان، كما قال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68)، وقوله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)؛ أي: الله سماكم المسلمين قبل وجودكم؛ كما ذكر صفتكم في الكتب السابقة، وسماكم كما قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29).
وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَفِي هَذَا) أي: وفي هذا القرآن (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، وهذا بلا شك تكريم للإسلام على سائر الرسالات السماوية، وأما الأديان التي حرَّفها أصحابها؛ فليست داخلة في التفضيل أصلًا، بل مَن كذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من اليهود والنصارى؛ فهو كافر مخلَّد في النار طالما قد بلغته رسالته؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
وأما التفضيل في شمول رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وارتفاعها على غيرها؛ فأمر لا يشك فيه مسلم بالنسبة إلى رسالات الأنبياء من قبل، ويدل على ذلك: قوله -عز وجل- لموسى -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دعى ربه -سبحانه- ألا يهلكهم بما فعل السفهاء منهم إلى آخر دعوته؛ قال: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 156-157)، وقال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
وقد قال غير واحد من الفلاسفة -وغيرهم-: إنه بإجماع الحكماء لم يطرق العالم ناموس أعظم من الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-! فحتى هؤلاء الفلاسفة المنحرفين عن دين النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرون بأن رسالته أعظم الرسالات وتشريعه أعظم التشريعات.
فتفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل الرسل مجمع عليه: كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).
والمفاضلة بين الأنبياء هي باجتباء الله -عز وجل- لمن شاء؛ ليست بأهواء الناس، وليس بتنقيص نبي على نبي، مع معرفة قدر جميع الأنبياء، وأنهم أفضل من جميع الأولياء، بل هم أفضل الخليقة؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 7).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ -عليه السلام-) (رواه مسلم)، وكان هذا قبل أن يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه سيد الناس، فقضية التفضيل بين الأنبياء إذا كانت بالأدلة الشرعية كتفضيل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتفضيل إبراهيم بعده، أمرٌ لا نزاع فيه بين أهل العلم؛ دَلَّ القرآن عليه، قال الله -عز وجل-: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (البقرة: 253)، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فأفضل الخليقة على الإطلاق هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، وكما يقول إبراهيم -عليه السلام- يوم القيامة في حديث الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وهذه إشارة إلى منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه أقرب في الخلة وبعده إبراهيم وبعده موسى -صلى الله عليهما وسلم-، كما دلت عليه أحاديث المعراج في لقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لموسى في السماء السادسة، وفي رواية في صحيح البخاري في السماء السابعة، والجمع بينهما ممكن؛ لأنه لقيه في السادسة وصعد معه -صلى الله عليه وسلم- إلى السابعة التي فيها إبراهيم.
فالاجتباء للأنبياء خاصة محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وإبراهيم وموسى -صلى الله عليهما وسلم-، ثابت في الكتاب والسنة، ولا مجال لإنكاره ولا مجال لنفي ذلك بمثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ) (متفق عليه)؛ فإن المقصود لا تفضلوا تفضيلًا يتضمن تنقيص بعضهم؛ كما قال: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) (متفق عليه)، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم- لما وجد بعض أصحابه يضربون مَن قال: "والذي اصطفى موسى على البشر"، وأما أن التفضيل حاصل؛ فلا نزاع في ذلك.
وهذا من اجتباء الله -عز وجل-، وليس من عند أحدٍ دون الله، ولكل منهم فضائله الخاصة، ويشترك مع غيره في الفضائل العامة للأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.