الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 11 سبتمبر 2024 - 8 ربيع الأول 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (178) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (7)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌إِنَّ ‌إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً ‌قَانِتًا ‌لِلَّهِ ‌حَنِيفًا ‌وَلَمْ ‌يَكُ ‌مِنَ ‌الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).

الفائدة السابعة:

قال الله -تعالى-: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، وحقيقة الشكر كما بينَّا: شهود نعمة الله -سبحانه وتعالى- أنها منه، وتعظيمه بها، ومحبته على ذلك، ثم الثناء على الله بها باللسان، واستعمالها في طاعة الله.

وقال الله -تعالى- في عبادة الشكر: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (البقرة: 152)؛ فأمر الله -عز وجل- بذكره، وأمر -سبحانه وتعالى- بشكره، وهذا الشكر هو أن يستحضر الإنسان نعم الله بقلبه، فيشهدها نعمة من الله -عز وجل-، ويعظم ربه بها، ويثني عليه هذه النعمة في طاعة الله -عز وجل- بجوارحه، فيكون قد شكرها عملًا، كما قال -عز وجل-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأصل الشكر في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورًا بينًا. يقال: شكرت الدابة تشكر شكرًا، على وزن سمنت تسمن سمنًا إذا ظهر عليها أثر العلف، ودابة شكور: إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتُعطَى من العلف. وفي صحيح مسلم: "حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم، أي: لتسمن من كثرة ما تأكل منها.

وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه: شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه: انقيادًا وطاعة" (مدارج السالكين).

ومن أسماء الله الحسنى الشكور، يشكر القليل من العمل، والله شاكر عليم؛ بمعنى أنه يقبل منهم ذلك اليسير، ويكافئهم عليه أضعافًا مضاعفة؛ لأنه -سبحانه وتعالى- غفور شكور، فهو كثير الشكر، وليس الشكر هنا أنه يعظم ما أنعموا به عليه فليس هذا هو الاعتبار هنا، ولكن بمعنى أنه يقبل حمدهم وشكرهم، ويجازيهم عليه أضعافًا مضاعفة؛ فهو يقبل القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، وهو يثيب الثواب الجزيل على العمل القليل، وهذه من شكره -سبحانه وتعالى-، كما في الحديث: (‌بَيْنَمَا ‌رَجُلٌ ‌يَمْشِي ‌بِطَرِيقٍ، ‌وَجَدَ ‌غُصْنَ ‌شَوْكٍ ‌عَلَى ‌الطَّرِيقِ ‌فَأَخَّرَهُ، ‌فَشَكَرَ ‌اللهُ ‌لَهُ ‌فَغَفَرَ ‌لَهُ) (متفق عليه)، فشكر الله له؛ أي: قبل منه، وظهر أثر العطاء من الله -عز وجل- على عبده أضعاف ما فعل العبد، ورضي الله عنه باليسير مما فعله.

ونهى -عز وجل- عن الكفر فقال: (وَلَا تَكْفُرُونِ) مع أن الأغلب الأعم أن يقال: "يكفر به"، فيقال: "كفر بالله"، لكن كلمة كفر هنا تتعدى بالباء وتتعدى بنفسها فيقال: "كفره وكفر النعمة" أي: لم يشكرها، و"كفر به" تستعمل في الأغلب الأعم في الكفر الناقل من الملة، وقد تستعمل في الكفر الأصغر، و"كفره" غالبًا ما تستعمل في كفر النعم، وقد تستعمل في الكفر الأكبر

ولو زال أصل الشكر بالكلية من القلب لزال الإيمان بالكلية كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وإنما عمدة عمل إبليس على إخراج العباد عن الشكر، كما قال الله -عز وجل عنه-: (‌وَلَا ‌تَجِدُ ‌أَكْثَرَهُمْ ‌شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17)، وهذا هو ظن إبليس الذي صدق عليهم كما قال الله -عز وجل-: (‌وَلَقَدْ ‌صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (سبأ: 20) أي: في كونهم لا يشكرون، ولو شكروا نعمة الله -عز وجل- لقادهم ذلك إلى التوحيد والإيمان.

فشكر نعمة الله -عز وجل- هو أحد أركان الإيمان، وإذا لم يشكر الإنسان ربه -عز وجل- ولو بقلبه لم يكن مؤمنًا أصلًا، بأن رأى أن الله لم ينعم عليه، وأنه استحق ذلك بنفسه، وأن هذا كان لا بد وأن يحصل له، ولو لم يفعل الله به ذلك لظلمه، والعياذ بالله!

فمن لم يرَ فضل الله ونعمته عليه لم يكن مؤمنًا، ولم يكن مقرًّا بأنه المتفضل بالكمال والإنعام والإحسان -سبحانه وتعالى-، بل من رأى نفسه مستحقًا رغمًا على الله -عز وجل- هذه النعم لم يكن مسلمًا أصلًا، فزوال الشكر من القلب بالكلية يعني زوال العبودية بالكلية وحصول الكفر به؛ لأن الكفر ضد الشكر كما تدل عليه هذه الآية، فإذا زال الشكر بالكلية زال الإيمان بالكلية، وحصل الكفر الكامل المطلق -والعياذ بالله-.