كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أوصني، قال: (لا تَغْضَبْ)، فردَّد مرارًا، قال: (لا تَغْضَبْ) (رواه البخاري). وعن جارية بن قدامة السعدي -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! قل لي قولًا ينفعني، وأقلل علي، لعلي أعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَغْضَبْ)، فأعدت عليه مرارًا، كل ذلك يقول لي: (لا تَغْضَبْ)، قال: ففكرت حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله. (رواه أحمد، وصححه الألباني).
مجمل الوصية:
هذا رجل يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه وصيةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها، فوصاه النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يردد عليه هذا الجواب، أي: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به؛ لأن الغضب جماع الشر، والتحرز منه جماع الخير.
أقسام الغضب:
ينقسم الغضب إلى قسمين:
- الغضب المحمود: وهو أن يكون لله -عز وجل- عندما تنتهك حرماته، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تُنْتَهَكْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ شَيْءٌ كَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا، وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ مَأْثَمًا" (أخرجه الحميدي، والبخاري بمعناه مختصرًا)(1).
وقال -تعالى-: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف: 150). قال العلماء: فكانت تلك الحدة منه والغضب فيه صفة مدح له؛ لأنها كانت لله وفي الله.
- الغضب المذموم: وهو الذي جاء النهي عنه في الوصية، وهو خلق سيئ؛ ومنه: الغضب للنفس أو عصَبيةً وحميةً -وهو موضوع حديثنا إن شاء الله-.
آثار الغضب:
للغضب آثار سيئة على عموم حال الإنسان(2): عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ!" (متفق عليه).
وجوانب آثار الغضب تتعدد:
- في الظاهر: تغير اللون، وشدة رعْدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الترتيب والانتظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتشتد حمرة الأحداق، وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغضبان في حال غضبه صورة نفسه لسكن غضبه حياءً من قبح صورته؛ لاستحالة خلقته.
- على اللسان: الأقوال المحرمة والقبائح، كالقذف والسب والفحش، والأيمان التي لا يجوز التزامها شرعًا، وطلاق الزوجة الذي يعقب الندم، وربما ارتقى الأمر إلى درجة الكفر، كما أن الغضبان لا ينتظم كلامه، بل يتخبط نظمه، ويضطرب لفظه، وقد يصيح صياحًا شديدًا أو يدعو على نفسه وأحب الناس إليه.
- على الأفعال: كالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن، وأنواع الظلم والعدوان، فإن عجز عن التَشفي رجع غضبه عليه، فمزق ثوبه، وضرب نفسه وغيره ممن ليس له ذنب، وربما سقط وعجز عن الحركة، واعتراه مثل الغشية؛ لشدة استيلاء الغضب عليه.
- على صحة الإنسان: فهو سبب لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف، (كالسكري، والذبحة الصدرية، والسكتة القلبية، وغيرها).
على الدين والإيمان: وهذا أشد الآثار ضررًا(3).
ولذا جاء النهي عن مزاولة الأمور المهمة إن كان الإنسان تحت تأثير الغضب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) (متفق عليه)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الرِّضَا وَالغَضَبِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إنما كان ذلك؛ لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد".
أسباب معينة على ترك الغضب عند حصوله:
- تغيير الحال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ؛ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- الوضوء: خطب معاوية يومًا، فقال له رجل: كذبت! فنزل مغضبًا فدخل منزله، ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماءً، فصعد المنبر، فقال: "أيها الناس، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إِنَّ الغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُطْفِئْهُ بِالمَاءِ، ثم أخذ في الموضع الذي بلغه من خطبته" (عيون الأخبار لابن قتيبة).
- ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) (متفق عليه). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ" (رواه البخاري).
- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن الرجل الغضبان: (إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَها ذَهَبَ عَنْهُ ما يَجِدُ، لَوْ قال: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ ما يَجِدُ)، وقال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (الأعراف: 200).
- السكوت: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلِّمُوا، وَيَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا، وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- أن يذكر الله -عز وجل-: قال -تعالى-: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) (الكهف: 24). قال عكرمة: "يعني: إذا غضبت". وقال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201). قال سعيد بن جبير: "هو الرجل يغضب الغضبة، فيذكر الله -تعالى-، فيكظم الغيظ". قلتُ: وما أحسن قول العامة للغضبان: (وحِّد الله - صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم).
- أن يذكر ثواب من كظم غيظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ؛ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ) (أخرجه أبو يعلى، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة للألباني).
وعن عبد الرزاق قال: "جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله -عز وجل- يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (آل عمران: 134)، فقال لها: قد كظمت غيظي. قالت: (وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران: 134)، قال: قد عفا الله عنك. قالت: (وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)، قال: فاذهبي فأنت حرة".
ودخل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- المسجد ليلةً في الظلمة، فمر برجل نائم، فعثر به، فرفع رأسه وقال: "أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا. فهَمَّ به الحرس، فقال عمر: مه! إنما سألني أمجنون؟ فقلت: لا!" (رواه البيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر في تاريخ دمشق).
خاتمة:
- وصية عظيمة تنفع الإنسان في الدنيا والآخرة: قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله! قل لي قولًا ينفعني، وأقلل علي، لعلي أعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَغْضَبْ)، فأعدت عليه مرارًا، كل ذلك يقول لي: (لا تَغْضَبْ). قال: ففكرت حين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقصود: أنه كان يسامح في حق نفسه... فأين نحن من ذلك؟ فكثير هم الذين يغضبون على الزوجات إذا تأخرت في إعداد الطعام، ولا يغضبون إذا أخرت الصلاة! وكثير هم الذين يغضبون إذا فرط الأولاد في الدراسة والمذاكرة، ولا يغضبون إذا فرطوا في الصلاة! وكثير هم الذين يغضبون إذا سبَّ أحدُهم أباه، ولا يغضبون إذا سَمِعوا من يسب الله أو دينه! وهلم جرًّا...
(2) الناس في قوة الغضب على درجات ثلاث: إفراط، وتفريط، واعتدال؛ فلا يحمد الإفراط فيها؛ لأنه يخرج العقل والدين عن سياستهما، فلا يبقى للإنسان مع ذلك نظر ولا فكر ولا اختيار. والتفريط في هذه القوة أيضًا مذموم؛ لأنه يبقى لا حمية له ولا غيرة، ومن فقد الغضب بالكلية عجز عن رياضة نفسه؛ إذ الرياضة إنما تتم بتسليط الغضب على الشهوة، فيغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة، ففقد الغضب مذموم؛ فينبغي أن يطلب الوسط بين الطريقين.
(3) من أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال: تسميتهم الغضب شجاعةً، ورجوليةً، وعزة نفس، وكبر همة! وتلقيبه بالألقاب المحمودة -غباوةً وجهلًا!- حتى تميل النَّفس إليه وتستحسنه، وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر، فيهيج الغضب إلى القلب بسببه.