الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 04 يونيو 2024 - 27 ذو القعدة 1445هـ

شريعة الإسلام كاملة وكفيلة بالسياسة العادلة (6) ماهية السياسة الشرعية وضوابطها التي تميزها عن غيرها من السياسات (2)

كتبه/ طارق علي السيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قد ذكرنا في المقال السابق أن السياسة قسمان: وانتهينا إلى سؤال مهم، وهو: ما حقيقة السياسة الشرعية وكيف تتميز عن غيرها من السياسات؟

ولنجاوب عن هذا السؤال، فلعلنا نستمع لنقاش دار بين ابن عقيل وأحد فقهاء الشافعية نقله ابن القيم في كتابه: (الطرق الحكمية):  "قال ابن عقيل: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم ولا يخلو من القول به إمام. فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.  فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلًا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع؛ أي: لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع؛ فغلط، وتغليط للصحابة؛ فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن".

ومن هنا نفهم أن السياسة الشرعية هي كل فعل يفيد المصلحة العامة، وإن لم تأتِ به نصوص الكتاب والسنة، على شرط ألا تخالف هذه السياسة الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد استشهد ابن عقيل بفعل الخلفاء الراشدين، حيث ذكر بعد ذلك أن عمر قد نفى نصر بن حجاج؛ لافتتان النساء بجماله، وأن عثمان أمر بتحريق المصاحف وجمع الناس على مصحف واحد؛ خشية الاختلاف في القرآن، وكل هذه الأفعال لم تأتِ بها نصوص الكتاب والسنة، ولكن كانت مبنية على المصلحة العامة، ومع ذلك لم تخالف نصوص الكتاب والسنة.

وبذلك يكون منهج العدل في السياسة الشرعية وسطًا بين طرفين: أحدهما: يقصر السياسة الشرعية على ما نطق به الشرع فقط؛ والآخر: يجعلها مشتملة على كل فعل يفيد المصلحة حتى وإن خالف هذا الفعل النصوص التفصيلية، أو كانت المصلحة نابعة من الأهواء الشخصية. 

ولذلك قال ابن القيم معقبًا على كلام ابن عقيل: "وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرطت فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنه حق مطابق للواقع؛ ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول، وإن نافت ما فهموه من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر... وأفرطت طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله! وكلتا الطائفتين أُتيت مِنْ قِبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتبه" (الطرق الحكمية).

ثم قال: "فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات، فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها، وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بَيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له، فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله ظهر بهذه الأمارات والعلامات" (الطرق الحكمية).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.