كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبنو إسرائيل هم بنو يعقوب (إسرائيل) -عليه السلام-، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم أبي الأنبياء -عليه السلام-. وكان ليعقوب اثنا عشر ولدًا (الأسباط).
استوطن بنو إسرائيل مصر في الفترة الزمنية التي كان فيها يوسف -عليه السلام- عزيز مصر وما بعدها، ثم تعرضوا للاضطهاد كما جاء في قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون مصر في القرآن الكريم، وانتهت بخروج بني إسرائيل مع موسى -عليه السلام- من مصر بعد أن شق لهم موسى البحر بعصاه فعبروه، بينما غرق فرعون وجنوده في البحر عندما حاولوا عبور البحر خلف بني إسرائيل.
وفي سيناء أنزل الله -تعالى- على بني إسرائيل المَنَّ والسلوى، وشق لهم موسى -عليه السلام- بعصاه اثنتي عشرة عين ماء، لكل سبط منهم عين مخصصة له.
ولكن سرعان ما تعرض موسى -عليه السلام- لمواقف عديدة من تعنت بني إسرائيل وعصيانهم، منها:
- طلب بنو إسرائيل من موسى -عليه السلام- أن يجعل لهم إلهًا يعبدوه كما أن للوثنيين الذين مروا عليهم في سيناء آلهة يعبدونها، فأنكر عليهم موسى هذا الطلب غاية الإنكار، وبين لهم ما في ذلك من الضلال الشديد.
- طلب بنو إسرائيل تعنتًا رؤية الله -عز وجل- جهرة بعد ما رأوا كل المعجزات التي أيد الله -تعالى- بها موسى -عليه السلام-.
- ولما قضى موسى -عليه السلام- أربعين يومًا فوق جبل الطور لمناجاة ربه وتلقى التوراة، استخلف فيها هارون -عليه السلام- على بني إسرائيل، فعبد بنو إسرائيل العجل الذهبي الذي صنعه لهم السامري.
- رفض بنو إسرائيل صراحة أمر موسى -عليه السلام- لهم بدخول الأرض المقدسة التي كتبها الله -تعالى- لهم خوفًا من مواجهة سكانها الكنعانيين، وقالوا له كما جاء في آيات القرآن الكريم: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، وقالوا: (يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة: 22) فعاقبهم الله -عز وجل- (بالتيه) في سيناء أربعين سنة، ليظهر فيها جيل جديد يكون أفضل من آبائهم الذين اعتادوا حياة المهانة والخضوع التي عاشوها في مصر قبل خروجهم منها.
- أبدى بنو إسرائيل أيضًا تعنتهم ومماطلتهم لموسى -عليه السلام- لما أمرهم بذبح بقرة، في قصة بقرة بني إسرائيل المذكورة في القرآن الكريم (سورة البقرة).
- بعد وفاة هارون وموسى -عليهما السلام- تولى أمر بني إسرائيل يوشع بن نون وأوتي النبوة.
- وبعد نهاية فترة التيه كان دخول بني إسرائيل أرض كنعان (فلسطين) بقيادة يوشع، لم يفتح بنو إسرائيل فلسطين بالكامل، ولم تقم لهم فيها وقتها دولة.
ومع دخولهم أراضي فلسطين جاء بنو إسرائيل بأعمال منكرة في المدن التي دخلوها إذ قتلوا فيها كل الرجال والنساء، والعجائز والأطفال بوحشية غير مبررة، وحرقوا المدن، وقتلوا أيضًا البقر والغنم والحمير بالسيف، كما جاء في كتبهم! والغالب إن كان هذا وَقَع منهم أنه كان من غير أوامر من الله -تعالى- أو من نبيهم، وإن ادعوا هم خلافه في كتبهم.
ومن تعنت بني إسرائيل: أنهم لما دخلوا قرية منتصرين، وقيل لهم: قولوا (حطة) وادخلوا الباب سجدًا تغفر لكم خطاياكم؛ غيَّروا الكلمة، فقالوا: (حنطة) ودخلوا متفاخرين في خيلاء؛ كما قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ . فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) (الأعراف: 161-162).
- عاش بنو إسرائيل في تلك الفترة من تاريخهم فيما عرف بعصر القضاة (الكهنة)، كان يسوسهم فيها القضاة (أو الكهنة) لم يعرفوا فيها التوحد تحت إمرة قائد واحد لهم جميعًا، ولم يشكلوا دولة واحدة تحت حكم رجل واحد منهم، وإنما كانوا يجتمعون إذا أحاطت بهم الأخطار من القبائل حولهم، ثم لا يستمر هذا التجمع إذا زال الخطر.
- بعد تعرض بني إسرائيل لهجمات شديدة من قبائل مجاورة هددت وجودهم، اجتمعوا تحت إمرة رجل ملكوه عليهم، إذ طلبوا من نبي لهم -هو صموئيل- أن يعين لهم ملكًا منهم ليحاربوا معه القبائل التي تهددهم والتي أخرجتهم من ديارهم، فعيَّن لهم نبيهم طالوت (شاؤول) ملكًا؛ فقبلوه على مضض. ونصرهم الله -تعالى- على جيش (جالوت) رغم ما كانوا عليه من قلة العدد، وقتل داود (جالوت)، وزوج طالوت (شاؤول) داود ابنته.
- ثم تولى داود المُلك وأوتي النبوة، فاجتمعت النبوة مع الملك في بني إسرائيل لأول مرة، ولم تتكرر بعدها إلا مع سليمان بن داود، وقد استطاع داود -عليه السلام- أن يوسع مساحة ملكه، وأن يقيم لبني إسرائيل مملكة حكمها هو وابنه سليمان من بعده.
- استمر حكم داود من سنة (1000 ق. م.) حتى سنة (961 ق. م.)، وحكم ابنه سليمان من بعده حتى سنة (922 ق. م.) تقريبًا، وفي تلك الفترة كان بناء سليمان -عليه السلام- للهيكل، فكان إجمالي حكم داود وسليمان -عليهما السلام- معًا لا يزيد عن 80 سنة، كانت خلالها مملكة (إسرائيل) موحدة.
- وبعد وفاة سليمان سرعان ما انقسمت المملكة إلى مملكتين: مملكة في الشمال (مملكة إسرائيل) وعاصمتها السامرة، ومملكة في الجنوب (مملكة يهوذا) وعاصمتها القدس (أورشليم)، ودارت الصراعات وكانت العداوة بين المملكتين.
- لما غزا الآشوريون المملكة الشمالية وقضوا عليها في عام 721 ق. م. تمثل الوجود الإسرائيلي خلال هذه الفترة في المملكة الجنوبية (يهوذا).
- ثم غزا نبوخذ نصر (بختنصر) المملكة الجنوبية، وسبى من اليهود حوالي 10 آلاف إسرائيلي نقلهم إلى بابل، وذلك في عام 597 ق. م. وعيَّن عليها حاكمًا منهم، ثم لما تمرد هذا الحاكم على حكم بختنصر، قام بختنصر بغزو (يهوذا) مرة أخرى، حيث دمر القدس ودمر الهيكل وسبى معظم سكانها، وذلك في عام 587 ق. م.
- في عام 539 ق. م. كانت فترة العودة من السبي، ثم كان بناء الهيكل مرة أخرى عام 515 ق. م، فكانت القدس وقتها أشبه بمستعمرة يهودية خاضعة سياسيًا للحكم الفارسي.
- في عام 332 ق. م. هزم الإسكندر الأكبر الفرس ودخل القدس وبعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 322 ق. م. وبعد انقسام المملكة اليونانية إلى عدة ممالك؛ منها: مملكة البطالمة، والمملكة السلوقية، حكم البطالمة فلسطين إلى جانب حكمهم لمصر.
- وفي عام 200 ق. م. استولى السلوقيون على فلسطين والقدس، فأصبحت القدس خاضعة للحكم السلوقي.
- ثم دخل الرومان بقيادة القائد الروماني بومبي فلسطين والقدس في عام 63 ق. م، حيث قضوا على الحكم السلوقي. وقد تعرضت القدس للتدمير، على يد (بومبي) عام 63 ق. م.
- ثم تعرضت القدس للتدمير مرة أخرى عام 70 م، وتعرض معها الهيكل للتدمير، وذلك بعد التمرد اليهودي المسمى بالثورة الكبرى.
- ثم تم طرد اليهود بالكامل من فلسطين عام 135 م بعد ثورة (باركوخبا).
الفرق اليهودية عند ميلاد المسيح -عليه السلام-:
كان اليهود منقسمين زمن ظهور المسيح عيسى -عليه السلام- إلى عدة فرق دينية تتصارع فيما بينها صراعات شديدة، وكان من سمة هذه الصراعات محاولة بعض هذه الفرق استمالة الحكام الرومان لقمع الفرق الأخرى.
وكانت أهم هذه الفرق:
فرقة السامريين: وهي أقدم الفرق، ظهرت بعد انقسام مملكة داود وسليمان إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال، ومملكة يهوذا في الجنوب. كان السامريون -نسبة إلى (السامرة) عاصمة إسرائيل (مملكة الشمال)- يؤمنون بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، ولا يؤمنون بنبوة باقي أنبياء بني إسرائيل؛ لذا فهم لا يؤمنون إلا بتوراة موسى وسفر يوشع فقط، ولا يؤمنون بالتلمود ولا المشناه. وهم لا يؤمنون كذلك بالهيكل إذ الجبل المقدس عندهم هو جبل (جزريم) وقبلتهم إليه، وليس إلى جبل صهيون، كما كانوا يؤمنون بيوم القيامة بصورة أكبر وضوحًا من باقي الفرق. وهم كذلك يؤمنون بالخلاص الروحاني على يد المسيح المنتظر، وكانت لهم معتقدات سرية خاصة بهم؛ لذا سموا بالغنوصية (أو الباطنية)، لم يبق منهم إلى اليوم إلا أعداد قليلة.
فرقة الصدوقيين:
أقوى الفرق اليهودية من حيث النفوذ، كانوا يداهنون الحكام لحماية مكانتهم ومصالحهم، وكانت لهم مشادات كثيرة مع الفريسيين، وكانوا هم المشرفين على الهيكل وإدارته، وكثيرًا ما تولوا منصب الكاهن الأكبر خلال تاريخ اليهود، وكانوا أيضًا لا يؤمنون كالسامريين إلا بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون؛ لذا لا يؤمنون إلا بالعهد القديم. كانوا لا يؤمنون بيوم القيامة والبعث كما هو في الرسالات السماوية. وقد أنكر عليهم المسيح -عليه السلام- فساد مذهبهم في البعث وأفحمهم بما اعتبر نصرًا للفريسيين (إنجيل متى: الإصحاح 22). كانوا يؤمنون بأن الجبل المقدس هو جبل صهيون ويؤمنون بالهيكل. لا يؤمنون بالمسيح المنتظر، وكانوا أشد الفرق اليهودية عداء لظهور المسيح -عليه السلام-. وهم من وشوا به عند الحاكم الروماني لقتله.
فرقة الفريسيين (الربانيين): وتعني المنعزلين؛ لأنهم يؤمنون بأسفار التلمود، وهي الفرقة صاحبة النفوذ الديني الأكبر لدى اليهود، منهم كان كهنة الهيكل بخلاف الكاهن الأكبر الصدوقي، وكان لهم القرار الأخير في مجلس السبعين (مجلس السنهدرين) المخول بإدارة الأمور الدينية لليهود. لم يداهنوا حكام الرومان، ومنهم تطورت اليهودية ومعظم يهود اليوم هم استمرار لعقائدهم. وهم يؤمنون بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون وبباقي الأنبياء حتى الأسر البابلي، ولا يؤمنون بباقي الأنبياء بعد هذا السبي، وبالتالي فهم يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع وباقي أسفار الأنبياء ويؤمنون بالتلمود والمشناه. وهم يقولون بعصمة رجال الدين عندهم، ويؤمنون بالبعث ولكن في الدنيا للاشتراك في ملك المسيح المنتظر، وقد تأثروا بالثنائية الفارسية وبالاتصال بعالم الأرواح والاستنساخ. ومن سماتهم التشدد في تطبيق الشريعة الموسوية خاصة الشكليات منها على حساب الجانب الروحي. وقد أنكر عليهم المسيح -عليه السلام- كثيرًا وله معهم مواقف تكشف عما كانوا عليه النفاق والالتواء والتحريف.
فائدة: التلمود أي: التعاليم، ويضم بحوث أحبار اليهود وفقهائهم المنتمين إلى فرقة الفريسيين، ويسمى أيضًا المشناه، بمعنى المثنى أو المكرر؛ لأنها تكرار وتسجيل للشريعة اليهودية، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْرَأَ فِيهِمْ بِالْمِثْنَاةِ لَيْسَ أَحَدٌ يُغَيِّرُهَا. قِيلَ: وَمَا الْمِثْنَاةُ؟ قَالَ: مَا اسْتُكْتِبَ مِنْ غَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ" (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 2821). (وينظر: نقض المنطق لابن تيمية، ط. مكتبة السنة المحمدية بتحقيق حامد الفقي، ص 94).
فرقة الإسينيين: وهم الذين يسمون أنفسهم (جماعة العهد الجديد)، وينعتون أنفسهم بالأنقياء والأتقياء، ويرون باقي الفرق اليهودية منافقين أو مرتدين. وكانوا عدة آلاف منتشرين في فلسطين مركزهم على شاطئ البحر الميت، وكانوا يجهزون أنفسهم للجهاد ضد الرومان. يؤمنون بموسى وهارون ويوشع وكل الأنبياء وبالتالي فهم يؤمنون بالتوراة وجميع أسفار الأنبياء. ويؤمنون بالهيكل ولكن ليس شرطًا عندهم إقامة الصلاة فيه. يؤمنون بصورة جلية بيوم القيامة والقضاء والقدر ويؤمنون بالمسيح المخلص. وكان يميلون إلى تفضيل التبتل على الزواج.
ولقد كانت هناك فرق أخرى، لكنها كانت تعد غير مؤثرة.
الإيمان باليوم الآخر عند اليهود:
من الأمور الملفتة بالنسبة لنسخ التوراة الحالية (الأسفار الخمسة لموسى -عليه السلام-) أنه لم يرد فيها ذكر للبعث والحساب والجنة والنار؛ كما أن أسفار الأنبياء لم يرد فيها ذكر الآخرة إلا نادرًا، أكثرها ما ذكر في سفر دانيال وسفر تثنية الاشتراع. وجاء ذكر الجنة والنار بشكل مغلوط؛ إذ لا يوجد بها أكل أو شرب أو ماديات أخرى، وإنما هو نور الخالق هو الثواب، ويجلس الصالح بسكينة وعلى رأسه تاج. والجنة مأوى الأرواح الزكية، ولا يدخلها سوى اليهود، والجحيم مأوى الكفار حيث الظلام والعفونة والطين.
(والخلاصة: أن الاعتقاد اليهودي بأمور الآخرة من قيامة وحساب وجنة ونار كان عند ظهور المسيح -عليه السلام- غير واضح المعالم، وبعض الفرق كانت تنكره تمامًا كالصدوقيين، ولم يكن صريحًا وصحيحًا إلا عند الإسينيين فقط) (راجع كتاب: المسيح... لماذا؟، إعداد أحمد توفيق - ط. دار المحرر الأدبي - ط. أولى 2016 م، ص 32. وللاستزادة راجع: اليهودية واليهود، د. علي عبد الواحد وافي).
موقف اليهود من المسيح -عليه السلام-:
وُلِد المسيح -عليه السلام- بمعجزة إلهية؛ إذ ولد بدون أب، وقد تولى الله -عز وجل- تسميته، قال -تعالى-: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران: 45). ولما أنكر أهل مريم قدومها عليهم حاملة طفلها كلَّمهم هذا الطفل في المهد، فكان كلامه في المهد تبرئة منه لأمه؛ إذ أعلن أنه عبد الله -تعالى- ورسوله؛ قال -تعالى-: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا . يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا . فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم: 27-33).
وقد أيَّد الله -تعالى- المسيح -عليه السلام- بمعجزات باهرات لم يأتِ بمثلها أي رسول قبله بهذه الكثرة والإبهار، من شفاء للأمراض المستعصية كالبرص والعمى، ومن إحياء الموتى، ومن خلق الطير من الطين بعد النفخ فيه؛ قال -تعالى-: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (المائدة: 110).
كما أنزل -تعالى- على المسيح -عليه السلام- مائدة من السماء بناءً على طلب الحواريين لتطمئن قلوبهم بها ويأكلوا منها، ويكونوا شهودًا عليها، ويتأكدوا بها من صدق دعوة المسيح. وهي المائدة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة المائدة. وهو ما ورد في العهد الجديد عند النصارى في أمر المائدة التي تجمع حولها المسيح -عليه السلام- مع الحواريين فيما يعرف عندهم بالعشاء الأخير، وإن زعم النصارى أن المسيح وزع في هذا العشاء على حواريه الخبز والنبيذ وباركه!
كان بين موسى وبين المسيح -عليهما السلام- قرابة 1500 سنة. وخلال هذه الفترة لم يطرأ أي تغيير على شريعة موسى -عليه السلام-، بل كان هناك أنبياء يتعاقبون على بني إسرائيل يسوسوهم ويطبقون شريعة موسى ويذكرونهم بها، ويصححوا ما يفعله اليهود من تلاعب في الشريعة أو تحريف. وحتى الزبور الذي أنزل على داود -عليه السلام- كان كتاب تعبد، ولم يكن فيه تشريعات.
ثم كان مجيء المسيح -عليه السلام- مكملًا ومتممًا لشريعة موسى برفع بعض الآصار التي كانت على بني إسرائيل رحمة بهم، ومقدمًا بعض الإضافات، كما قال -تعالى- على لسان عيسى -عليه السلام-: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (آل عمران: 50)، فكان الإنجيل الذي أنزل على المسيح أول كتاب تشريعي بعد التوراة، وإن كانت تلك التشريعات الجديدة التي جاء بها ليست كثيرة.
تكذيب اليهود للمسيح -عليه السلام-:
كيف كان استقبال اليهود للمسيح -عليه السلام-؟ كان استقبالهم له امتدادًا لتمردهم من قبل على أنبيائهم، وعدم تحمل إرشادهم ووعظهم لهم، بل كانوا في معاداة المسيح عيسى -عليه السلام- أشد، لأن رسالة المسيح -عليه السلام- تضمنت أمورًا تصادم ما كان عليه القادة الدينيون لبني إسرائيل، ومن ذلك:
التأكيد على الإيمان باليوم الآخر:
فلا شك أن الإيمان باليوم الآخر من ثوابت الرسالات السماوية التي أنزلها الله -تعالى- في أي مكان أو زمان، بما فيها شريعة موسى وأنبياء بني إسرائيل من بعده. ولكن المطلع على عقائد الفرق اليهودية عند ظهور المسيح -عليه السلام- يجد أن هذا الأمر كان مشوشًا؛ فالصدوقيون وهم أهم الفرق والذين منهم الكاهن الأكبر كانوا منكرين لمسألة اليوم الآخر، فلا آخرة ولا جنة ولا نار، بل هي الحياة الدنيوية التي يثاب فيها المرء أو يعاقب على أفعاله. أما الفريسيون، ومنهم يكون كهنة الهيكل عدا الكاهن الأكبر، وهم المتحكمون في مجلس (السنهدرين) الذي يبت في المسائل الدينية لليهود فكان أمر اليوم الآخر عندهم مشوشًا، وإيمانهم بالثواب والعقاب كان جزئيًا أو شكليًا، فتوراة موسى التي معهم لا تذكر أو تلمح باليوم الآخر، ولا يوجد ذكر للجنة والنار بشكل واضح، بل كانت لدى البعض منهم فكرة (تناسخ الأرواح)، بأن الروح الطيبة تنتقل عند موت صاحبها لتولد من جديد وتعيش حياة أخرى كاملة حتى ميعاد الآخرة، بينما الروح الشريرة تحرم من ذلك.
عدم القول بعصمة رجال الدين:
قال الفريسيون بعصمة رجال الدين، فهم عندهم معصومون من الخطأ مما يعني أنهم الفائزون في الآخرة، وأن لهم فيها أفضل مكانة، أيا كانت صورة تلك الآخرة. بينما في العهد الجديد نرى مواقف وصف فيها المسيح هؤلاء الفريسيين بالنفاق والرياء!
إثبات الكمال لله -تعالى-:
فرغم أن اليهود عند مجيء المسيح كانوا معترفين بوجود الله -عز وجل- كإله واحد، لكن كان توحيدهم هذا أيضًا مشوشًا؛ إذ ألصقوا بالله -سبحانه وتعالى- صفات بشرية تنافي ألوهيته، فهو عندهم لما أكمل خلق العالم في ستة أيام استراح في اليوم السابع (يوم السبت)؛ لذا حرَّم عليهم العمل فيه. وعندهم الله -سبحانه وتعالى- يندم، كما في ندمه على اختيار شاؤول (طالوت) ملكًا على بني إسرائيل، فزعموا (والرب ندم لأنه ملك شاؤول على إسرائيل) (سفر صموئيل)، بينما كانت دعوة المسيح إثباتًا للقدرة الكاملة لله -تبارك وتعالى-.
إثبات نبوة كل أنبياء بني إسرائيل ونفي الزلات عنهم:
كان إيمان بني إسرائيل بأنبيائهم فيه اضطراب، فمنهم من يؤمن بكل أنبياء بني إسرائيل، ومنهم من لا يؤمن إلا بموسى وهارون ويوشع ولا يؤمنون بنبوة من جاء بعدهم. وقد تعنتوا مع أنبيائهم وعصوهم. كما نسبوا لبعض أنبيائهم فعل الفواحش، فجعلوا نبي الله لوط -عليه السلام- يشرب الخمر ويزني بابنتيه، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما (سفر التكوين (19): 30-38). وزعموا أن داود -عليه السلام- عشق زوجة قائد جيوشه (أوريا الحثي) فسعى في قتله بأن بعثه في بعثة حربية معروف مصيرها مسبقًا ليقتل فيها فيتخلص منه ويظفر هو بزوجته (سفر صموئيل الثاني (12): 8-14). وادعوا أن سليمان -عليه السلام- كان يمارس السحر، بل وقتلوا بعض هؤلاء الأنبياء كزكريا ويحيى -عليهما السلام-.
لم يقم لهم ملكًا كانوا يتطلعون إليه:
جاء المسيح بدعوته لكنه لم يعلن الحرب على الرومان، وإنما دعاهم إلى الرجوع إلى شريعة موسى -عليه السلام- مع المجيء بتعديلات قليلة مكملة. بينما كان اليهود في ذلك الوقت يتطلعون إلى المسيح المنتظر، يريدونه ملكًا قويًا يعلن الحرب على الرومان ويهزمهم ويحرر لهم أرض يهوذا، ثم يجهز الجيوش اليهودية ليقيم حربًا مقدسة ضد جميع الأمم المجاورة وغير المجاورة ليستعبد كل هذه الأمم.
التبشير بأحمد الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-:
وهذا مما بشر به الإنجيل وبالتحديد إنجيل (يوحنا). والإخبار عنه بأنه النبي الأخير، وأنه ليس منهم بل من أمة أخرى، أي ينزع الريادة منهم، وهم ينتظرون أن يكون هذا النبي منهم كما اعتادوا في السابق.
من هنا كانت العداوة الظاهرة من اليهود للمسيح -عليه السلام- ولما جاءهم به ومحاولاتهم للتخلص منه.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.