كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الفرحُ المذمومُ بالدنيا:
قال الله -تعالى-: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (الرعد: 26).
"والمرادُ بالفرحِ هنا: الأَشَرُ والبَطَرُ وجحودُ النِّعَمِ ونسيانُ الآخرةِ، لا فَرَحُ سُرورٍ بِنِعَمِ اللهِ، وشُكْرٌ لهُ سبحانهُ عليها، وتذكُّرٌ للآخرةِ وما فيها مِنْ ثوابٍ وعِقابٍ". (الوسيط).
وقال القُرطبيُّ -رحمه الله-: "فَرِحُوا بها، ولم يَعْرِفُوا غيرَها، وجَهِلُوا ما عندَ اللهِ. (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)". قال ابنُ عبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما-: "زَادٌ كَزَادِ الراعي". يُتَمَتَّعُ به قليلًا، ويُفارِقُ أهلَهُ وأصحابَهُ، ويُعْقِبُهُمْ وَيْلًا طويلًا.
المرح المذموم:
والمَرَحُ في قولِ اللهِ -تعالى-: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (غافر: 75).
قال القرطبيُّ -رحمه الله-: "ذلكمُ العذابُ بما كنتُم تفرحونَ بالمعاصي، يُقالُ لهم ذلكَ تَوْبيخًا، أي: إنَّما نالكمْ هذا بما كنتُم تُظهِرونَ في الدنيا مِنَ السرورِ بالمعصيةِ، وكثرةِ المالِ والأتباعِ والصحَّةِ. (وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ). قال مجاهدٌ -رحمه الله- وغيرُه: أي: تَبْطَرُونَ وتَأْشَرُونَ. وقال الضحَّاكُ: الفرحُ: السرورُ، والمَرَحُ: العدوانُ".
وقال السعديُّ -رحمه الله-: "أي: تَفرحونَ بالباطلِ الذي أنتمْ فيهِ، وبالعلومِ التي خالفتُمْ بها عُلُومَ الأوَّلِينَ. وتَمْرَحُونَ على عبادِ اللهِ بَغْيًا وعُدْوانًا، وظُلْمًا وعِصْيانًا؛ كما قالَ اللهُ -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). وهذا هو الفرحُ المذمومُ الموجِبُ للعقابِ، بخلافِ الفرحِ الممدوحِ الذي قالَ اللهُ فيهِ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)، وهو الفرحُ بالعِلْمِ النافعِ والعملِ الصالحِ".
الفرحُ بالعِلْمِ المذمومِ:
ومِنَ الفرحِ المذمومِ: الفرحُ بالعِلْمِ المُنَاقِضِ لما جاءتْ به الرُّسُلُ، العِلْمِ الذي يدعو إلى الإلحادِ والتكذيبِ؛ قال اللهُ -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (غافر: 83).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم -في زعمهم- عما جاءتهم به الرسل. قال مجاهد -رحمه الله-: قالوا: نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب. وقال السدي -رحمه الله-: فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم، فأتاهم من بأس الله ما لا قبل لهم به".
وقال السعدي -رحمه الله-: "وهذا عام لجميع العلوم، التي يناقض بها ما جاءت به الرسل، ومن أحقها بالدخول في هذا: علوم الفلسفة، والمنطق اليوناني، الذي ردت به كثير من آيات القرآن، وأنقصت قدره في القلوب، وجعلت أدلته اليقينية القاطعة، أدلة لفظية، لا تفيد شيئا من اليقين، ويقدم عليها عقول أهل السفه والباطل. وهذا من أعظم الإلحاد في آيات الله، والمعارضة لها، والمناقضة. فالله المستعان".
إذًا الفرح المذموم هو الفرح بالكفر والمعاصي، وبالعلوم التي خالفت ما جاءت به الرسل، والأشر والطغيان بالنعمة، والتكبر على عباد الله -تعالى-، والفرح بما أوتي من نعمة لا يشكرها، إنما يعصي بها ربه، وقد يتكبر بها على الناس ويحتقرهم.
تنبيه مهم للعاصي الذي يفرح بمعصيته ولهوه:
فرق بين مَن يعصي ربه وهو حزين، يبغض المعصية، ويدعو ربه -تعالى- أن يعافيه منها، وبين من يعصي ربه وهو فرح بها مسرور؛ فقد يعصي العبد ربه بمعصية؛ لكن لا بد له من بغضها، وأخذه بالأسباب للنجاة منها، والتوبة إلى ربه -تعالى-، لئلا يجمع بين معصيتين: حبه للمعصية التي أمرنا ببغضها والابتعاد عنها وعن مظانها وأسبابها، وبين ارتكابه للمعصية. فبغضه لها من أسباب تركها، والتوبة منها، مع دعاء الله -تعالى-: "اللهم حبِّب إلي الإيمان وزيِّنه في قلبي، وكرِّه إلي الكفر والفسوق والعصيان، واجعلني من الراشدين".
وبذلك يتبيَّن الفرق بين الفرح الممدوح والفرح المذموم، والله المسئول أن يوفقنا لمرضاته، ولما يقربنا إليه. وهو المستعان.