كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الإشارة إلى خطورة انتشار نصب الأصنام والتماثيل في هذا الزمان على نطاق الشوارع والميادين والبيوت، والقاعات والملاهي والجامعات، وعموم أماكن التجمعات: عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ)، وَذُو الخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. (متفق عليه). قال العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى ما سيحدث من الردة والرجوع إلى عبادة الأصنام في آخر الزمان.
- اتخاذ الأصنام والتماثيل كبيرة من أكبر الكبائر؛ لما لها من أثر سيئ على عقيدة التوحيد، وقد جاء فيها الوعيد الشديد والعذاب الأكيد: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ) (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الَّذينَ يصنَعونَ هذهِ الصُّوَرَ يُعذَّبونَ يومَ القيامةِ فيُقالُ لَهُم: أحيوا ما خَلَقتُمْ) (متفق عليه).
(1) معنى الصورة في اللغة وكلام العلماء:
- قال في لسان العرب: "والتمثال: الصورة، والجمع التماثيل، وظلُّ كلِّ شيء تمثالُه، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله، وأصله: من مثَّلت الشيء بالشيء إذا قدَّرته على قدره، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به" (لسان العرب لابن منظور بتصرف يسير).
- وأما في كلام العلماء فإنهم يتناولون في بحثهم لمعنى الصور وما يندرج تحتها ثلاثة أنواع مختلفة:
الأول: الصور المجسمة التي لها ظلٌ (وهو محل اتفاق على التحريم)(1).
الثاني: الرسم باليَد (محل خلاف).
الثالث: التصوير الفوتوغرافي المعاصر (محل خلاف).
- والنوع الأول -وهي الصور المجسمة أو التي لها ظل كما يطلق عليها السلف- هو غرضنا من الحديث؛ لبيان موقف الإسلام منها.
(2) من الأدلة على تحريم التماثيل والأصنام:
- عن أبي جحيفة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ والمُصَوِّرَ) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ تَمَاثِيلُ أَوْ تَصَاوِيرُ) (رواه مسلم)، وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كلُّ مُصوِّرٍ في النَّارِ، يُجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرها نفسٌ فتُعذِّبُه في جهنَّمَ) (متفق عليه)، وعن أبي الهيَّاج الأسديِّ قال: قال لي عليُّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "أَلَا أَبْعَثُكَ علَى ما بَعَثَنِي عليه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ" (رواه مسلم)، وفي لفظٍ له: (ولا صورةً إلا طمستَها).
وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّها اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِيرُ، فَقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالبابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلتُ: أتُوبُ إلى اللَّهِ ممَّا أذْنَبْتُ، قالَ: (ما هذِه النُّمْرُقَةُ؟) قُلتُ: لِتَجْلِسَ عليها وتَوَسَّدَها، قالَ: (إنَّ أصْحابَ هذِه الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيامَةِ، يُقالُ لهمْ: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ، وإنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فيه الصُّورَةُ) (رواه البخاري)، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ)، وَقَالَ -أي: ابن عباس-: "إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لا نَفْسَ لَهُ" (متفق عليه).
(3) الحكمة من تحريم التماثيل:
تدل النصوص على عدة حِكَمٍ يتعلق بها تحريم التماثيل، أهمها أمران:
الأول: مضاهاة خلق الله: وهذا مذكور صراحة في الأحاديث؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه).
- والثاني: سد ذريعة الشرك: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في أسماء معبودات قوم نوح: "أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلى قَوْمِهِمْ: أنِ انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِمُ الَّتي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَابًا، وسَمُّوهَا بأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ" (رواه البخاري).
(4) شبهات يحتجُّ بها من يجوِّز نصب التماثيل:
- الشبهة الأولى: اتِّخاذ سليمان -عليه السلام- للتماثيل لقوله -تعالى-: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).
والجواب من وجوه:
أولًا: أن هذا باطل؛ لمخالفته الإجماع.
ثانيًا: "أنه لو كانت التماثيل لذوات الأرواح فإنها لا تدل على إباحتها؛ فإن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا محل اتفاق بين العلماء" (أضواء البيان).
ثالثًا: أنه يحتمل أن يكون تماثيل للجمادات وغير ذوات الأرواح، وهذا جائز في شريعتنا أيضًا، فلا يكون إشكال، وهذا أقرب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذمَّ من قبلنا لاتِّخاذهم الصور، كما جاء في قوله لأم سلمة: (أُولَئِكِ إذَا مَاتَ منهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) (رواه البخاري)، فدلَّ ذلك على أن اتخاذ الصور محدَث أحدثه عُبّاد الأوثان. (فتح الباري).
- الشبهة الثانية: عدم كسر الصحابة للأوثان في البلاد المفتوحة:
والجواب من وجوه:
أولًا: أنه لكي يستدلَّ بمثل هذا لا بد من إثبات أنَ الصحابة رأوا هذه التماثيل، وقدروا على إزالتها ولم يفعلوا، وأنى يمكن إثباتُ ذلك؟! فاحتمال أنهم لم يروها وارد جدًّا، فلم يثبت رؤيتهم لشيء من ذلك في مصر أو الشام أو العراق.
ثانيًا: أنه قد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التماثيل كانت مطمورة في التراب؛ خاصة أنه لم يكن يهتم بها الناس أصلًا لزمن قريب جدًّا، وكانوا يهملونها غاية الإهمال، وربما جعلوها مكَبًّا لنفاياتهم ونحو ذلك؛ حتى عظَّمها الغرب في نفوسهم من أجل تعزيز الانتماء للقوميات المنافية للإسلام.
ثالثًا: لو فرضنا أنهم رأوها، يبقى احتمال عدم قدرتهم على إزالتها؛ فإن تكسيرها ليس بالسهل، وقد ذكر ابن خلدون أن المأمون حاول هدم بعضها فلم يقدر. (مقدمة ابن خلدون). فمثل هذه الوقائع لا تقاوم النصوص والإجماعات القطعية التي سبق بيانها.
- الشبهة الثالثة: إن تحريم التصوير كان في بداية الإسلام بسبب تعلق القلوب بعبادة الأصنام، وهذه المفسدة قد زالت من قلوب الناس، وصارت هناك مصلحة في إقامتها، وهي ربط الناس برموزهم الدينية والوطنية.
والجواب من وجوه:
أولًا: ليست علَّة تحريم التصوير منحصرةً فقط في ذلك، بل هناك علل أخرى أشرنا لبعضها.
ثانيًا: مَن قال: إن الناس الآن لا يُخَاف عليهم الشرك؟! ومن يأمن على نفسه البلاء إلا جاهل بالشرك أو بنفسه أو بربِّه؟! وإذا كان الخليل -عليه السلام- يدعو ربه قائلًا: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، فمن يأمن البلاء بعد إمام الحنفاء؟! ومن يتأمل واقع الناس اليوم في المشارق والمغارب يجد افتتانهم بالصور في معابدهم، وتعلّقهم بصور كبرائهم ومعظَّميهم ومتبوعيهم، بل كثير من المتصوفة يعلّقون صور شيوخهم ويتبرَّكون بها ويخاطبونها، كما يفعل النصارى مع صورة مريم والمسيح -المزعومتين-؛ فكيف يقال: إن الناس الآن لا يخاف عليهم من الشرك والافتتان بالصور؟!
ثالثًا: لو فرضنا أن الأكثر الآن لا يُخاف عليهم من ذلك؛ فقد تأتي أجيال بعد ذلك، مع فشو الجهل أكثر، ونسيان العلم أكثر، فتقع في المحظور كما حدث لقوم نوح.
رابعًا: إن مصلحة الدين مقدمة على سائر المصالح، فإذا قدَّرنا أن في نصب التماثيل المجسمة مصلحة، ففيها مفسدة أعظم تتعلَّق بالدين وهي ذريعة الشرك ومخالفة الشريعة، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح؛ فكيف إذا كانت هذه المصلحة يمكن تحصيلها بطرق كثيرة أخرى؟! فربط الشباب برموزهم الصالحة ليس موقوفًا على إقامة المجسمات في الميادين، وإلا فأين تماثيل الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وأئمة الفقه والحديث، وأبطال الإسلام، وغيرهم من المصلحين؛ حكامًا وعلماء ودعاة؟!(2).
خاتمة:
- كيف لمسلم بعد كل ذلك أن يتلبس بهذه الشبهات الواهية التي تعارض أعظم مقاصد البعثة النبوية؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة حين سأله: وَبِأَيِّ شَيءٍ أَرْسَلَكَ؟ قالَ: (أَرْسَلَنِي بصِلَةِ الأرْحَامِ، وَكَسْرِ الأوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ به شَيءٌ... ) (رواه مسلم).
وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7).
- والله -سبحانه وتعالى- لن يسأل الناس عن استجابتهم لأحد يوم القيامة غير الرسول -صلى الله عليه وسلم-: فيقول -سبحانه-: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 65).
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال النووي -رحمه الله-: "وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك) (شرح صحيح مسلم). وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله-: "فإنها -أي: الصور- محرمةٌ إذا كانت أجسادًا بالإجماع" (المسالك في شرح موطأ مالك). وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- هذا الإجماع، وأقره عليه (فتح الباري). وقال خليل المالكي: "التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع" (التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب). والنقول في ذلك كثيرة، فليس بين العلماء اختلاف في تحريم صور الحيوان المجسمة.
(2) من بحث على موقع (سلف للبحوث والدراسات - إشراف د/ محمد بن إبراهيم السعيدي بعنوان: تحريم التماثيل صيانة لجناب التوحيد - للأستاذ شريف طه).