كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الغرض مِن الموضوع:
إحياء قضية المسجد الأقصى في نفوس المسلمين، وبيان معالِم طريق تحريره مِن الأيدي الغاصبة، مِن خلال التعرض لصفحاتٍ مِن تاريخ الاعتداءات على بيت المقدس على مرِّ التاريخ، وكيف كان الطريق لتحريره في كل مرة.
* المقدمة:
- الإشارة إلى أن أرض فلسطين "وعلى الخصوص المسجد الأقصى"، قد تعرضتْ للاعتداءات الكثيرة على مرِّ التاريخ، وفي كل مرة يقيض الله -عز وجل- لذلك مَن يقوم على تحريرها مِن الأيدي الكافرة الغاصبة.
- التذكير بما جاء في المرة السابقة في عبارةٍ وجيزة، وأن المسجد الأقصى ظل في أيدي المؤمنين إلى أن بدأت تظهر فيهم الانحرافات عن دين الله، فكانت سنة الله الماضية (سقوط بيت المقدس - تسلط جالوت وجنوده): قال تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: 53).
مجمل الأحداث:
- كان هذا الاعتداء بعد زمان نبي الله موسى، وقبيل زمان نبي الله داود -عليهما السلام-.
- الله -عز وجل- يجعل فيهم نبيًّا ليحيي فيهم العقيدة الصحيحة، ويقوِّم الانحراف، حتى قام القوم يطلبون ويعلنون لنبيهم نصرتهم للدين، واستعدادهم لتحرير بيت المقدس مِن أيدي الكافرين، فنصرهم الله وعاد إليهم بيت المقدس بعد أحداثٍ أجملتها آيات القرآن: قال تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ . تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة: 246-252).
دروس مِن الأحداث:
1- انتفاضة العقيدة:
- بيان أهمية أن تكون الانتفاضة والصحوة في سبيل الله، وليست لمجرد الأرض: (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
- خطأ تصور أن صراعنا مع الكفار ينتهي بتسليم الأراضي المحتلة؛ لأن الخصومة بيننا وبينهم في الإيمان والكفر قبل كل شيء: قال تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39).
- لا بد مِن تصحيح عقيدة المسلمين قبْل انتفاضتهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (متفق عليه).
2- أهمية التربية والتصفية قبْل مواجهة الأعداء:
- اختيار الأتباع الصادقين، والتحذير من الحماسات الخداعة: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين) (البقرة: 246).
- أهمية التخلص مِن الأمراض القلبية التي تؤخر النصر والتمكين، ومِن أعظمها:
1- الحسد: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ).
2- التنافس على الرياسة والملك، وهو يتضمن تزكية النفس وعيب الآخرين: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ).
3- استعمال موازين الجاهلية، بإهمال العلم والدين وتقديم المال وتعظيمه عليهما: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ).
4- المجادلة وضعف الاستجابة لأوامر الله ورسوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
- لكن الصادقون يستجيبون في النشاط والكسل والعسر واليسر: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36)، (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) (آل عمران: 172).
3- المؤمنون في امتحانٍ دائم والثابتون قلة؛ فلا تستوحش:
- المقصود مِن ذلك: أن الابتلاء والتمحيص والتصفية لا تتوقف في الصف المؤمن، ولو تجاوز بعضهم بعض مراحل التربية، وأن الفئة الثابتة دائمًا قليلة: قال تعالى-: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)، وروى البخاري عن البراء -رضي الله عنه- قال: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ: أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ". وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "وكانوا يومئذٍ سبعين ألفًا".
- الدنيا مثل هذا النهر، والذين يريدون الوصول إلى نهاية الطريق ينبغي لهم ألا يأخذوا منها إلا ما يبلغهم هدفهم: ذكر أهل السِّير في قصة القائد المسلم "ألب أرسلان": أنه لما خرج بجيشه لملاقاة جيش دقيانوس ملك الروم، بلغه أن جيش الروم ستمائة ألف، وكان جيشه -رحمه الله- عشرين ألفًا، فقام خطيبًا في جيشه، وقال: "لا سلطان لكم اليوم"، فرجع خمسة آلاف، ثم باتوا فرجع من الليل ثلاثة آلاف، ولم يبقَ معه سوى اثنتي عشر ألفًا، فلبسوا جميعًا أكفانهم وتحنطوا، وأقبلوا على الجهاد في سبيل الله، فنصرهم الله نصرًا عزيزًا مؤزرًا" (نقلًا عن قصة بناء أمة، د. ياسر برهامي).
3- أدب المؤمنين عند الشدائد واللقاء:
- الثبات والتثبيت لغيرهم: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
- التضرع واللجوء والتعوذ بالله والتوكل عليه بعد الأخذ بالأسباب المتاحة: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لقي العدو يقول: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وكان يقول: (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- نصر الله قريب مِن الصادقين: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ). قال العلماء: "والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، فهي تدل على السرعة، وأن المعركة لم تأخذ وقتًا طويلًا". (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: 40).
خاتمة:
- خاتمة الآيات المشتملة على القصة تنبه إلى أهمية إقامة سنة التدافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الدين في حياة المسلمين، وعند ذلك تصلح الحياة وتعود إليهم المقدسات: قال الله -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.