كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
لما ذَمَّ الله -عز وجل- الذين فَرَّقوا دينهم -وقُرئ: "فارقوا دينهم"- وكانوا شيعًا؛ بَيَّن -سبحانه وتعالى- الدِّين الحق الذي بَعَث الله به أنبياءه ورسله، وبَعَث به إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأرسل به رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؛ ليجدد دين الأنبياء ويتم تفصيل ما بدأوه، ويخالف الذين فارقوا دين التوحيد والحنيفية والإسلام من أهل الكتاب، ومن أهل الأوثان، وهم الذين فارقوا دينهم وفرَّقوه كذلك، فإنهم تمسكوا ببعض ما كان منه وتركوا أعظم ما أُمِروا به، وهو الحنيفية، وهي التوحيد والميل إلى الله والإعراض عمَّن سواه؛ فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس: إن الله هداه إلى هذا الدِّين، وهو الحنيفية المسلمة.
قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يقول الله -تعالى- آمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- سيدَ المرسلين أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، دينًا قِيَمًا، أي: قائمًا ثابتًا، (مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: 130)، وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج: 78)، وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
وليس يلزم مِن كونه -عليه السلام- أُمِر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه -عليه السلام- قام بها قيامًا عظيمًا، وأُكملِت له إكمالًا تامًّا لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال؛ ولهذا كان خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم-، وسيد ولد آدم على الإطلاق، وصاحب المقام المحمود الذي يرهب إليه الخلق حتى الخليل -صلى الله عليه وسلم-.
وقد قال ابن مردويه سنده عن ابن أبزى، عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح قال: (أَصْبَحْنَا عَلَى مِلَّة الْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَمِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الشيخ الألباني).
وقال أحمد أيضًا بسنده: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذقني على منكبه؛ لأنظر إلى زفن الحبشة (قلتُ: لعبهم ورقصهم بالحراب)، حتى كنت التي مللتُ، فانصرفتُ عنه.
قال عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ: (لِتَعْلَمَ يَهودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنيفيَّة سَمْحَة)؛ أصل الحديث مخرج في الصحيحين، والزيادة لها شواهد من طرق عِدَّة (وحسنه الشيخ الألباني)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرف).
وفي قوله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي)، فوائد:
الفائدة الأولى: أن هداية الله -عز وجل- هي سبب الخير الذي هُدِي إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وجاء به، وهدينا نحن بذلك؛ فلا بد من شهود فضل الله -سبحانه وتعالى- بالهداية كما بَيَّن الله -عز وجل- في مواطن مِن كتابه، وأن هذه حال أهل الجنة جميعًا؛ إذا دخلوا الجنة فهم يشهدون نعمة الله عليهم بالهداية، وقالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) (الأعراف: 43)، وفي هذا إثبات الإيمان بالقَدَر كما تضمنته سورة الأنعام مبينًا في مواضع كثيرة، وباقي سور القرآن.
الفائدة الثانية: في قوله: (هَدَانِي رَبِّي) ذِكْرُ اسم الربوبية مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد؛ فيه شهود إصلاح الله -عز وجل- الخاص للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكلُّ عبدٍ يجب عليه أن يشهد مِنَّة الله -عز وجل- عليه، وكل مؤمن يرى أن إصلاح الله -عز وجل- له في أمر الدِّين هو أعظم إصلاح وأعظم نعمة، وإرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدِّين، هو أعظم نعمة.
قال الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)؛ ولذلك كان الإسلام الذي بُعِث به النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الدين؛ قد جَمَع الله -عز وجل- فيه ما يصلح البشرية؛ أفرادًا وجماعات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حين أُمِر أن يخاطب قومه بذلك، كان هو -عليه الصلاة والسلام- في أعظم نعمة من الله في وسط الجاهلية الظلماء الظالمة، التي لا نور فيها؛ فناسب ذلك أن يذكر اسم الربوبية "الرب"، وهو بمعنى المصلح لشأن عباده، مضافًا إلى ضمير المتكلِّم المفرد: "رَبِّي"، ليكون ذلك شاهدًا على نعمة الله -عز وجل- العظيمة التي هي أعظم نعمة على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحن تبع لها؛ قال الله -عز وجل-: (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113).
الفائدة الثالثة: الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام، وهو الدِّين القّيِّم -وقرأ: "قَيِّمًا وقِيَمًا"، وهما بمعنى واحد، وهما قراءتان متواترتان، بأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب- مبنيٌّ على العلم النافع والعمل الصالح؛ على صحة الاعتقاد والتصور والفهم، وعلى صحة الإرادة والقصد والعمل؛ خلافًا لصراط المغضوب عليهم، الذين فَقَدوا الإرادة الصحيحة والعمل الصالح رغم معرفتهم بالحق، وغير صراط المغضوب عليهم الذين جَهِلوا الحق بإعراضهم عنه، فلم يعلموه ولم يعملوا به؛ أما الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد بُعِث بالصراط المستقيم وهدي إليه، كما قال -تعالى-: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (النجم: 1-2)؛ فكمَّل الله له كمال الهداية والفهم والعقيدة بنفي الضلال عنه، وكمَّل الله له كمال الإرادة والقصد والعمل بنفي الغواية عنه.
الفائدة الرابعة: الدِّين القَيِّم والدِّين القِيَم، هو المستقيم القائم بالحق، الثابت الذي لا اعوجاج فيه، فالله -عز وجل- أنزل على عبدة الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا قَيِّمًا، وهي نعمة الله على عباده المؤمنين؛ أن دينهم لا اعوجاج فيه كسائر الملل المنحرفة عن دين الله -سبحانه وتعالى-، وهو ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الحنيف المائل إلى الله، المُعْرِض عن غير الله.
الفائدة الخامسة: بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن دِين إبراهيم ودين محمد -صلى الله عليهما وسلم- هو الحنيفية، وكذلك بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه بُعِث بذلك، وذكر أنه بعثت بالحنيفية السمحة، وذلك هو الفطرة التي فَطَر اللهُ الناسَ عليها، كما قال -عز وجل-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، والحنيفية قائمة على توحيد الله -عز وجل- وإفراده بالربوبية والربوبية، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله، وحقوقه على العباد، وحبه -عز وجل- والميل إليه وإرادته، وأما ذِكْر السماحة في الحديث الحسن؛ فهو إشارة إلى الأخلاق السهلة، والسهولة التي في التشريعات، فالله -عز وجل- لم يجعل علينا في الدِّين من حَرَج، وشرع لنا أنواعَ التيسير؛ بما في ذلك الإذن باللهو واللعب المباح في أيام العيد، وأيام التشريق، ونحو ذلك.
الفائدة السادسة: قوله -تعالى- عن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 79)، فيه تأكيد البراءة من الشرك، فإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن مشركًا، ولا يهوديًّا، ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين، والبراءة من الشرك أساس ثبوت لا إله إلا الله؛ وإلا فمَن لم يتبرأ من المشركين، بل عَدَّ الشرك كالإسلام، وسَوَّى بين الملل الكافرة وبين ملة الإسلام؛ فهو لم يعرف ملة الإسلام، وقد قَدَح ذلك فيها، ففي هذا هدم لما يسمونه: "الدين الإبراهيمي الجديد"؛ القائم على مساواة الملل؛ خاصة اليهودية والنصرانية، ثم يتوسَّعون بعد ذلك في البوذية والهندوسية، وغير ذلك، وهي بدعة شركية ضلالة في النار، لا يقول بها مسلمٌ.
والحمد لله على هدايته لعباده المؤمنين، نسأل الله أن يجعلنا منهم.