الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 08 مايو 2023 - 18 شوال 1444هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (115) دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لأبيه وقومه إلى التوحيد وبراءته من الشرك (19)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ . فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ . فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام: 74-83).

قوله -تعالى-: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه فوائد:

الفائدة الأولى:

قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) تضمَّن أنهم جادلوه في توحيد الله وبطلان عبادة آلهتهم؛ يريدون إثبات أن آلهتهم خير من إلهه وأولى بالعبادة منه، وقد جادلهم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحجة؛ رغم غرابة محاججتهم عن عقيدة باطلة، يظهر لكلِّ عاقل بطلانها، واستفهامه عن محاججتهم إياه للإنكار والتعجب! وبالفعل والله إنه لأمر عجيب أن تجدَ مَن يجادل عن الباطل، ويطلب إقامة الحجة على عبادة الأصنام المنحوتة بأيديهم التي لا تنطق، وهم يعلمون أنها لا تنطق، ولا تهدي سبيلًا! ولا أرجل لهم يمشون بها، ولا أيدي لهم يبطشون بها، ولا أعين لهم يبصرون بها، ولا آذان لهم يسمعون بها، ثم يخوِّفونه بها أن تصيبه بسوءٍ وأذى كخبلٍ أو جنونٍ، أو مرض، أو قتل، وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شيئًا، كما قال قوم هود -عليه السلام- له: (إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (هود:54-56).

وكلما مَرَّ المرء على هذا الموضع، يتعجب فعلًا من مجادلة أهل الباطل عن باطلهم في كلِّ زمان مع وضوح الأمر، ولكنه الخذلان، وعدم التوفيق وعدم الهداية من الله، والطبع على القلوب والعقول حتى تظن الحق باطلًا والباطل حقًّا إلى هذه الدرجة!

وإلى يومنا هذا يجادلُ أهلُ الباطل عن باطلهم -رغم البيان التام-؛ فالملحدون يجادلون عن إلحادهم، رغم أن قضيةَ إثبات فعلٍ بلا فاعلٍ، أو لجمادات الطبيعة التي يشاهدون كلَّ لحظة عجزها أشد من جهالة قوم إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- في عبادة أصنامهم، مع أن الباحثين عن الآثار لو وجدوا تمثالًا مدفونًا في الأرض؛ لقالوا: بالتأكيد نحته الفراعنة، أو اليونان، أو الرومان، ولم يقولوا نحتته الطبيعة! فكيف بهذا الخلق العظيم؟! (‌وَفِي ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَفَلَا ‌تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، وكيف بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس؟!

وعُبَّاد البقر: يجادلون إلى يومنا هذا عن فضل الأبقار واستحقاقها للعبادة؛ رغم أنها موجودة في الجاموس والإبل، وربما منافع فيهما أكثر، ومع ذلك يذبحون الجاموس، ويذبحون مَن ذبح البقرة، ويمنعون المسلمين من الصلاة في مساجدهم! رغم أن الهند كلها كانت مملكة للمسلمين، حتى جاء الاحتلال البريطاني فغيَّر وبدَّل ومكَّن الهندوس، مع أن بعض بلاد المسلمين أسسوا لهم معابد هندوسية شركية؛ لإظهار التسامح المزعوم مع الشرك بالله وعبادة غيره، بل يجامل أحدهم ويداهن في الدِّين بأن يوشوش البقرة المقدسة -بزعمهم!- كما وشوشتها المرأة التي تطلب منها ما تريد، وتدعوها من دون الله! ففعل الضال فعلها مداهنة لهم، ومجاملة للباطل!

واليهود: يجادلون عن باطلهم في تكذيب عيسى ومحمد -صلى الله عليهما وسلم-، وأن الأمة اليهودية فقط هي المستحقة للدِّين، وباقي البشر يجب أن يكونوا عبيد العبيد لهم؛ رغم أن المسلمين العرب ساميون مثلهم، وأدلة نبوة عيسى وموسى -صلى الله عليه وسلم- أعظم الأدلة، وهي موجودة عندهم في التوراة والإنجيل، ويقرأون أن الله -عز وجل- يستعلن من جبال فران، وجبال فران هي جبال الجزيرة العربية التي نزل نور الوحي فيها على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- في مكة أولًا ثم المدينة، وأجدادهم قد أتوا إلى يثرب فرارًا من بختنصر انتظارًا للنبي الموعد الذي يعلن كلَّ الحقائق عن الله -عز وجل-، وكمال الشريعة الإسلامية؛ عقيدة وعبادة ومعاملة، وأخلاقًا وسلوكًا، وتطهيرًا للقلوب من أمراضها، وإحياءً لها: بمعرفة الله ومحبته، وعبادته، وخوفه ورجائه، لا ينازع فيها عاقل، بالمقارنة إلى كل الكتب السابقة.

والنصارى: يجادلون عن باطلهم في ألوهية المسيح والروح القدس؛ رغم أنهم يقرأون نصوص التوراة والإنجيل، بل وأقوال المسيح نفسه إلى الآن في أناجيلهم بعد التحريف، بإثبات التوحيد وبطلان الشرك، ولعن المصلوبين، وقبول الله توبة التائبين قبل نزول المسيح دون ذبيحة إلهية، ودون ارتكاب جريمة أعظم من كلِّ خطايا البشر ابتداءً من الأكل من الشجرة -بزعمهم!- بصلب الإله ابن الإله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا؛ رغم أنهم سمعوا وقرأوا قول المسيح -صلى الله عليه وسلم- لما سُئِل: "أي الوصايا هي أول الكل؟ قال: الرب إلهنا رب واحد، كما هو مكتوب، رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب".

ومع كل ذلك يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويهمون بأهل الحق كي يأخذوهم، ويوشك الله أن يأخذهم، كما أخذ مَن أرادوا أن يطفئوا نور الله في دعوة الرسل، بأخذ الرسل أو قتلهم، أو أسرهم، أو إخراجهم؛ لإبطال دعوتهم؛ فأخذهم الله؛ فكيف كان عقابه لهم؟!

ومع كل هذا، فنحن مأمورون بالجدال بالتي هي أحسن؛ إقامة لحجج الله على عبادة، كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ‌بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وقال -تعالى-: (‌وَلَا ‌تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46).

فالدعوة إلى الله، وإقامة الحجة على الناس؛ مِن أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ ‌حُجَّةٌ بَعْدَ ‌الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165)، ولأنه -عز وجل- عزيز حكيم؛ فهو يحب العذر، ولا يعذِّب أحدًا إلا بعد بلوغ الحجة وثبوت المحجة، ويقوم بإظهار الحجة والمجادلة بالتي هي أحسن ورثة الرسل مِن العلماء الأتقياء، الصالحين المصلحين.

الفائدة الثانية:

قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الآية الكريمة: (وَقَدْ هَدَانِ): فيه شهود فضل الله ونعمته العظيمة على عبده المؤمن بالهداية؛ هداية التوفيق والإسعاد بمعرفة التوحيد وبطلان الشرك، وإثبات النبوة والرسالة للأنبياء، ولا يدخل أحدٌ الجنةَ إلا وهو شاهد لهذه الهداية، قال تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . ‌وَنَزَعْنَا ‌مَا ‌فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 42-43).

وقد تكرَّر هذا المعنى من كلام إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الرسل، قال -تعالى- عن إبراهيم: (قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 75-80)، الآيات.

وقال -سبحانه وتعالى- عن الرسل في مجادلتهم لقومهم: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ . وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم: 10-12).

وقال -سبحانه وتعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161).

وهذا الشهود لفضل الله بالإيمان تحقيق للإيمان بالقدر، فالاهتداء الذي هو فعل العبد، قد خلقه الله فيه بفضله ومنِّه، والعبد فاعلٌ الاهتداء والله فاعلٌ للهدى، الله هداه، فالله خَلَق الهدى في قلب عبده المؤمن، وخلق الضلال في قلب الضال الكافر، وهو أعلم بالشاكرين وهو أعلم بالظالمين، ولولا أن الله أضلهم ما حاجوا أنبياءهم ورسلهم في أوضح اليقينيات.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.