الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 27 مارس 2023 - 5 رمضان 1444هـ

رمضان فرصة لإيقاظ القلب

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فحتى ننتفع بشهر رمضان، نحتاج إلى أن نفهم عدة أمور، منها: أن الله -سبحانه وتعالى- خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وحمأ أي: من طين، ومسنون أي: منتن، متغير الرائحة، قال الله -سبحانه وتعالى-: (‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلْمَلَائِكَةِ ‌إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 28-29).

إن أصل مادة الإنسان ليس فيها ما يُمدح، بل أصل مادته الأرضية فيها ما في الآية الكريمة، لكن التكريم؛ إنما هو لقوله -تعالى-: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ)، فسواه الله بيده، كما قال لإبليس مبينًا له سبب التكريم والسجود لآدم: (‌قَالَ ‌يَا إِبْلِيسُ ‌مَا ‌مَنَعَكَ ‌أَنْ ‌تَسْجُدَ ‌لِمَا ‌خَلَقْتُ ‌بِيَدَيَّ ‌أَسْتَكْبَرْتَ ‌أَمْ ‌كُنْتَ ‌مِنَ ‌الْعَالِينَ) (ص: 75)، فسواه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، فأصبح الإنسان إنسانًا، وروحًا مخلوقة مشرّفة؛ لأن الله نسبها إلى نفسه -سبحانه وتعالى-، فالكائن المكوَّن من أمرين: بدن من الحمأ المسنون، والروح العلوية المشرّفة المكرّمة المنسوبة إلى الله، لا بد وأن تتوازن حياته.

كما أن أنماط الحياة المعروفة التي يعيشها البشر تتفاوت؛ فأكثر العالم يعيشون من أجل احتياجات البدن، حتى تستمر الحياة: كالطعام، والشراب، والشهوة، والمال، والراحة، وهذه أشياء أباحها الله -سبحانه وتعالى- في حدود، أن ينالها من الحلال، دون إفراط ودون أن تتحكم في الإنسان، وهي لا بد منها لاستمرار الحياة، لكن لا يصح أن تشغل كل حياة الإنسان، فيعيش من أجلها فقط، فضلًا عن أنه ينالها من حرام، فإن الذي يكدِّر على الإنسان حياته أن ينال هذه الشهوات والرغبات من الحرام، أو يستعمل شيئًا مما خلقه الله لبقائه واستمراره في حرام، كأن يتكلم بالباطل؛ فقد جعل الله له اللسان ليذكره به، ويتواصل به مع غيره من الناس ليحقق مصالحه، فكونه يقول الزور ويكذب، ويغتاب وينم، هذا يضره أكثر الضرر.

كل هذه الأشياء إذا حصلت من حلال، لا تُسعد الإنسان إلا إذا حقق حاجة الروح، فحاجة الروح مختلفة؛ لأنها علوية، وقبل أن يولد الإنسان كانت في السماء مع آدم -عليه السلام-، كما في "الصحيح" لما رأى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- آدم في المعراج وعن يمينه أسوِدة وعن شماله أسوِدة، فقال له جبريل: "هؤلاء نسم بنيه".

وإن أكثر العالَم لا يعطي الروح حقها؛ فالروح لها إرادات ورغبات أخرى، غير الطعام والشراب والجنس والاختلاط والكلام مع الناس، وغير ذلك؛ لها احتياجات في القرب من الله -سبحانه وتعالى-، لها احتياجات في الحب والخضوع لله، والعبودية لله، وأساس العبودية هي عبودية قلب الإنسان، وعبودية روحه، كمال الحب مع كمال الانقياد والذل والخضوع والطاعة، مع ما يلزم من هذه العبادات: كالخوف، والرجاء، والتوكل والصبر، والإخبات والافتقار إلى الله، والتوبة والإخلاص، والاستغناء بالله عن الخلق؛ كل هذه العبادات وغيرها مما ورد في الكتاب والسنة، ضرورية لسعادة الإنسان، وكذلك لا بد من التخلص من آثار وسوسة الشياطين، وتسلطهم إذا ترك الإنسان نفسه لهم، فلا بد وأن يتخلص الإنسان من الكبر، والعجب والغرور، والحسد، والسمعة، والغفلة، والعيلة، والذلة والمسكنة، وغيرها، ولا بد وأن يتخلص من الشرك والنفاق، والفسوق والعصيان، وغيرها من الأمراض الإبليسية التي تُشقي الإنسان.

هذه معركة بين الإنسان والشيطان، ومعنى الإنسانية مرتبط بالروح، ودون الروح يرجع الإنسان للحمأ المسنون؛ ولذلك بعد موته وخروج الروح بساعات يبدأ الجسد في التعفن والتغيُّر.

لقد شرع الله -سبحانه وتعالى- في هذا الشهر، ترك الطعام والشراب، والشهوة الجنسية في نهاره، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله -عز وجل-: (يَتْرُكُ ‌طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي ‌وَأَنَا ‌أَجْزِي ‌بِهِ) (رواه البخاري)، وهذا هو الذي يهيئ الإنسان إلى استيقاظ للقلب الذي يعينه على يقظة البدن؛ لأن العبادة هي التي تفتح هذه الأبواب: الصلاة، والصيام، والصدقة، والقيام، والإنفاق؛ ولذلك رمضان فيه كل هذه العبادات، "وكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ‌فَيُدَارِسُهُ ‌الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" (متفق عليه).

لذلك نحتاج إلى تقليل الكلام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌كَانَ ‌يُؤْمِنُ ‌بِاللَّهِ، ‌وَالْيَوْمِ ‌الْآخِرِ ‌فَلْيَقُلْ ‌خَيْرًا ‌أَوْ ‌لِيَصْمُتْ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائم) (رواه البخاري).

والأصل أن يقلل الإنسان الخلطة، وأن يقلل الكلام، وأن يجتهد في الطاعة والعبادة في هذا الشهر الكريم، وأن يعتكف في العشر الأواخر من الشهر؛ حتى يتمكن كل واحد من أن يأخذ فرصة للجلوس مع نفسه لمراجعتها، وعبادة التفكر لا تحصل مع الزحام؛ ولذلك قال الله: (‌قُلْ ‌إِنَّمَا ‌أَعِظُكُمْ ‌بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) (سبأ: 46)؛ لأن التفكيرَ يحدث عندما نكون فرادى، فنفكر في واقعنا وحياتنا، وهل نجحنا بالفعل في تحقيق التوازن أم لا؟

نسأل الله أن يبلغنا شهر رمضان.