كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165).
نستكمل النقول في عن أهل العلم في مسألة شرط إقامة الحجة الرسالية قبل تكفير الشخص المعين إن وقع في شرك أو كفر، إذا لم يكن معلومًا من الدِّين بالضرورة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان -في وجوه تفاضل الإيمان-: "وهؤلاء، يعني مَن معهم إيمان مجمل يثابون على إسلامهم وإقرارهم بالرسول صلى الله عليه وسلم مجملًا، وقد لا يعرفون أنه جاء بكتاب، وقد لا يعرفون أنه جاءه مَلَك، ولا أنه أخبر بكذا، وإذا لم يبلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك لم يكن عليهم الإقرار المفصَّل به ولكن لا بد من الإقرار بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه صادق في كلِّ ما يخبر به عن الله" (كتاب الإيمان مجموع الفتاوى، 7/ 270).
فتأمل -أيها القارئ الكريم-: كيف افترض شيخ الإسلام هذا الفرض البعيد للغاية الذي لا يكاد يوجد حتى في الكفار، وهو: عدم المعرفة بنزول جبريل صلى الله عليه وسلم أو بوجود القرآن؛ فضلًا عما يحتويه القرآن من العقائد والأعمال، فأخبر أن مَن أقرَّ مجملًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدَّقه يُثَاب على ذلك.
وقال أيضًا: "وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة؛ مَن كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومَن لم يكن منافقًا، بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن وإن أخطأ التأويل كائنًا ما كان خطؤه، وقد يكون في بعضهم شعبة مِن شعب النفاق، ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار" (مجموع الفتاوى، 7 /218).
وهذا النقل عنه رحمه الله يؤكِّد: أن الثنتين وسبعين فرقة، كلها مِن فِرَق الأمة ومِن أهل القبلة، يُعَاملون كمسلمين حتى الروافض والخوارج؛ إلا مَن غلا مِن الرافضة فألَّه أحدًا دون الله: كالنصيرية الذين يؤلِّهون علي بن أبي طالب، والدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله، أو القائلين بنبوة أحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم: كالبابية والبهائية، أو القائلين بتحريف القرآن!
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله -في وجوه تفاضل الإيمان أيضًا-: "بل قلبه جازم أنه -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يخبر إلا بصدق، ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك أو يفسَّر له معناه، أو يظهر له بوجه من الوجوه، فيصدق بما كان مكذبًا به، ويعرف ما كان منكِرًا؛ هذا تصديق جديد وإيمان جديد، ازداد به إيمانًا، ولم يكن قبل ذلك كافرًا، بل جاهلًا.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله -في كتاب: "كشف الشبهات" تعليقًا على حديث ذات أنواط-: "وهذه القصة تفيد أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التَّعَلُّم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل: "التوحيد فهمناه!"؛ من أكبر الجهل، ومكائد الشيطان.
وتفيد أيضًا: أن المسلم المجتهد إذا تكلَّم بكلامِ كفرٍ، وهو لا يدري؛ فنُبِّه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفَّر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وتفيد أيضًا: أنه ولو لم يكفر؛ فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (انتهى من كشف الشبهات).
وهذه الأخير هو معنى قوله على هذا الحديث في كتاب التوحيد في المسألة السابعة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم"؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وليس المقصود عدم العذر في تكفيرهم، بل عدم العذر في التغليظ عليهم".
فهم مقصِّرون يستحقون التغليظ وإن لم يكفَّروا، وظاهر قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات أنه يجعل مسألة التبرك بالأحجار والأشجار -التي طلبها بعض حدثاء العهد بالإسلام من الصحابة في غزوة حنين- مِن الشرك الأكبر، وهم لم يكفروا؛ لأنهم جهال، وحدثاء عهد بالشرك، وهذا الذي رجَّحه الشيخ حامد الفقي، وهو الصحيح الظاهر حتى لو كان طلبًا من غير فعل؛ لأن طلبَ الكفر والعزم عليه في المستقبل كفر، ولو لم يفعله، وإن كان فعله أشد من مجرد الطلب، ولقد حَلَف النبي صلى الله عليه وسلم على مساواة هذا القول، بقول مَن قال: "اجعل لنا إلهًا"، ولا شك أن هذا القول كفر أكبر.
والحقيقة: أن الطلبَ كفر، والعمل كفر، وشرك أكبر، لكن منع مِن تكفير المعينين أنهم حدثاء عهد بالإسلام كما دَلَّ عليه الحديث، حيث قال: "خرجنا إلى حنين ونحن حدثاء عهد بشرك".
وهذا النقل الصريح عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يوضِّح لنا مذهبه في مسألة العذر بالجهل، وهو عدم التكفير إذا كان الشخص مثله يجهل ذلك، حتى في مسائل التوحيد؛ خلافًا لمَن يتوهم خلاف ذلك عنه، ويزعم أنه لم يكفِّرهم، ولكن لم يحكم بإسلامهم.
وهو قد قال رحمه الله: "وفيه أن المسلم، بل العَالِم قد يقع في أنواعٍ مِن الشرك لا يدري عنها"، وهذا يدل على أنه يحكم لهم بالإسلام؛ خلافًا لبعض أتباعه ممَّن يزعم أنه لم يحكم بإسلامهم، ونسبوا إليه مسألة مبتدعة لم يقل بها عَالِم؛ أن يُتوقف عن تكفير إنسان ثَبَت إسلامه، وفي نفس الوقت نمتنع عن إثبات حكم الإسلام له؛ فليس بمسلم ولا بكافر؛ فهذا قول محدث باطل، لا يقول به أحدٌ مِن أهل العِلْم.
وكذلك صَرَّح في بعض رسائله بالعذر بالجهل حيث قال: "وإذا كنا لا نكفِّر مَن عبد الصنم الذي على قبر البدوي مِن العوام؛ لأجل جهلهم، وعدم مَن ينبههم؛ فكيف نكفِّر مَن لم يكفِّر ولم يقاتل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!" (نقلًا عن منهاج أهل الحق والاعتدال، في المجلد الرابع من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود).
وهذا الكلام الواضح في أنه لا يكفِّر، ولا يُقَاتِل إلا بعد قيام الحجة، وقد زاد ذلك توضيحًا، فقال رحمه الله: "تكفير مَن بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونَفَّر الناس عنه، وجاهد مَن صَدَّق الرسول فيه، ومَن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعِث بإنكاره، وأقر بذلك ليلًا أو نهارًا، ثم مدحه وحسَّنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون؛ لأنهم السواد الأعظم! وأما ما ذكره الأعداء عني: أني أكفِّر بالظن وبالموالاة أو أكفِّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة؛ فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله" (رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 6/ 1-25).
وقال رحمه الله: "وأما التكفير، فأنا أكفِّر مَن عرف دين الرسول، ثم بعد ما عرفه سَبَّه ونهى الناس عنه، وعادى مَن فعله؛ فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك" (المصدر السابق، ص 38).
وقال رحمه الله: "وإنما نكفِّر مَن أشرك بالله في إلهيته بعد ما نبيِّن له الحجة على بطلان الشرك" (المصدر السابق، ص 60).
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: "والشيخ محمد رحمه الله مِن أعظم الناس توقفًا وإحجامًا عن إطلاق الكفر؛ حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له مَن ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها".
وهذه النقول كلها تؤكِّد بطلان ما نسبه البعض للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، مِن أنه يكفِّر الأمة منذ قرون، أو أنه سببٌ في نشر فكر التكفير بين الناس، وأنه وَقَع فيما وَقَع فيه الخوارج؛ فهذه الأقوال الباطلة لا بد مِن ردِّها عن الشيخ، وكتبه مليئة ببيان مذهبه الموافق للسلف في هذه المسألة؛ فليتقِ الله مَن يطعن في الشيخ بزعم أنه الذي نَشَر فكر التكفير!
مسألة مهمة:
هل الخلاف في العذر بالجهل: خلاف في العقيدة أم خلاف في أصول الفقه؟
الجواب: أن هذه المسألة يترتَّب عليها تكفيرُ عددٍ هائلٍ مِن المسلمين؛ فهي مِن مسائل الاعتقاد بلا شك، كما أن أصلَ المسألة مأخوذ عن المعتزلة الذين يقولون بعدم وجوب الحجة الرسالية طالما قامت الحجة العقلية، وإن غَيَّر اللفظ بعض المعاصرين فقالوا: "دليل الفطرة!"، وبعضهم يقول: "دليل ميثاق الذر!"؛ فلا يشترطون الحجة الرسالية، ولا شك أن هذه المسألة فرع على التحسين والتقبيح العقليين التي قال بها المعتزلة، وحاكموا الناس إليها دون رجوع إلى ما ثَبَت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذا فالمسألة خطيرة، وليست مجرد خلاف في أصول الفقه في قضايا عوارض الأهلية -كما زعمه البعض!-؛ فإن هذا ليس كذلك، بل هي مسألة عقدية حول تكفير المخالفين مِن أهل البدع، وكذا تكفير مَن وقع في الشرك جاهلًا أو مخطئًا؛ لذلك لا بد من الحذر
كما أن التطبيق العملي الذي وَقَع مِن جماعات التكفير لما ظنوه مذهبًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب أو بعض أتباعه؛ أدَّى إلى انتشار فكر خبيث مدمِّر، سُفِكَت به الدماء، وانتهكت به الحرمات؛ فكيف يهوَّن مِن شأن هذه المسألة الخطيرة بزعم أنها ليست من مسائل العقيدة، بل هي كذلك منها، وهي مِن ميراث فكر الخوارج والمعتزلة من الوعيدية.
ونكتفي بهذه النقول في هذه المسألة المهمة؛ لعل أن يكون فيها عِبْرَة لمَن اعتبر، وموعظة لمَن تجرأ على تكفير المسلمين.