الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 07 نوفمبر 2022 - 13 ربيع الثاني 1444هـ

ولو شاء ربك ما فعلوه (2)

كتبه/ أحمد شهاب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن رحمته سبحانه: أن ذكر بعض الحِكَم والغايات من تقدير الشر ووجود أهل الفساد، وإن كانت سعة حكمته سبحانه وتعالى لا تبلغها عقولنا؛ فهو الواسع سبحانه وتعالى.

فمن ذلك: أن الله تركهم امتحانًا لعباده؛ ليرى أصحابَ الإيمان الراسخ؛ المقيمين على العهد، الحافظين للود، ويظهر كذلك شياطين الإنس والجن، وهو سبحانه أعلم بهم؛ لكن ليكون علمه علم شهادة، ويظهر هذا العلم للناس فلا يجحده جاحد، ولا يكون لمتحجج حجة.

وهذا حتى يعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.

ويعلم الذين آمنوا ويعلم المنافقين.

وليعلم الله مَن ينصره ورسله بالغيب.

وليتخذ منهم شهداء وأولياء وصلحاء.

فهو ابتلاء وامتحان؛ ليتميز الصادق من الكاذب، والعاقل من الجاهل، والبصير من الأعمى.

وقوله تعالى: "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ ‌وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ"؛ "وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ": أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف المزَّين، ولتلك الشبهات الزائفة، "أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ"؛ لأن عدمَ إيمانهم باليوم الآخر هو الذي يجعلهم يتقبلون تلك الآراء والشبهات، فيكونون محلًّا للفتن والشبهات، بل ينتقلون إلى مرحلة أسوأ، وهي الرضا بالباطل.

"وَلِيَرْضَوْهُ"؛ أي: بعد أن يصغوا إليه، فهم يصغون إليه أولًا، فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة، رضوه، وزين في قلوبهم، وصار عقيدة راسخة، وصفة لازمة؛ فيصير الحق عندهم باطلًا، والباطل حقًّا.

ثم ينتج من ذلك: أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون، أي: يأتون من الكذب بالقول والفعل، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة.

"ومن حكمته: أن في ذلك بيانًا للحق، وتوضيحًا له؛ فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه؛ فإنه -حينئذٍ- يتبيَّن من أدلة الحق، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه، ما هو من أكبر المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون"، كما قاله الشيخ السعدي رحمه الله وغيره من المفسرين.

وفي نفس المعنى يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: "أوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق؛ لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس: متى يأتي الحق لينقذنا؟! وأنك ساعة ترى مريضًا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه: يا إنسان تنبَّه أن عطبًا في هذا المكان فسارع إلى علاجه؛ ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها؛ إلا أن يستعصي شفاؤها، وهكذا نرى أن الألم جندي من جنود العافية.

والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره؛ يقول لك:

عداي لهم فضل عليّ ومنة ... فعندي لهم شكر على نفعهم ليا

فهم كدواء والشفاء بمره ... فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا

همُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها ... فأصبحت مِمَّا دنس العرض خاليا

وهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

لذلك لا بد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له؛ فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى.

"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" أي: لو شاء عدم فعله لفعل؛ لأن له طلاقة القدرة؛ فلا يقدر أحدٌ أن يخرج عن مراده أبدًا".

فإذا كانت هذه الفتن والابتلاءات والمخاطر هي بقدر الله؛ فلنصبر ولنحتسب، ولننشغل بواجبنا نحن لندفع قَدَر الله بقدر الله؛ فنؤمن بالقدر ونعمل بالشرع، وليكن انشغالنا بالعمل والإصلاح والتغيير للأفضل، والقيام بواجب الوقت حسب الممكن والمتاح.

والحِكَم في هذه الآية كثيرة، وفيها معاني كبيرة وعظيمة وعميقة.

ثم القرآن كله مليء بتلك الآيات التي تمثِّل رسائل للمصلحين على مرِّ العصور؛ كل منها يحتاج لوقفة على حدة يتزود فيها المؤمن بغذاء وسلاح، ويتقوت قلبه بما يمَكِّنه من مواصلة مسيرته الإصلاحية لنفسه وأسرته ووطنه وأمته.

فلنضع خطة لتدبر آي القرآن وتفسيره، وتأمُّل الأحاديث والسيرة والتاريخ؛ لنستلهم العِبَر والعظات، ومبنى الأمر على ركنين رئيسيين:

1- الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، والتعرف عليه سبحانه وتعالى، وتعلق القلب به وحده؛ فإنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم.

2- الإيمان باليوم الآخر والارتباط به، ولازمه الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها.

وجماع ذلك كله تجده في قول الله عز وجل: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ . وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ".

فتأمل هذه الآيات وتدبرها آية آية، وكلمة كلمة.

اللهم أَجِرْنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.