الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 - 15 ربيع الأول 1444هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (86) دين إبراهيم وهو دين جميع الأنبياء واحد وهو قائم على الوحي المُنَزَّل (6)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا . وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا . رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 163-165).

الفائدة الرابعة:

دَلَّ  قولُه تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) على أن الزبور وهو بمعنى الكتاب الذي يزبر، أي: يكتب، كتاب أنزله الله على داود صلى الله عليه وسلم، فيه كلامه عز وجل، وهو أحد الكتب التي نص القرآن عليها ويجب الإيمان بها إجمالًا، وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم، وصحف إبراهيم وصحف موسى، وفيها قولان: الأول: أنها التوراة كتبت في صحف. والثاني: أنها صحف آتاها الله موسى قبل التوراة، ويؤيد هذا القول قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا . فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ‌فَدَمَّرْنَاهُمْ ‌تَدْمِيرًا) (الفرقان: 35-36).

فالكتاب المذكور في هذه الآية كان قبل أمر الله موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون وقومه، والتوراة كانت بعد هلاك فرعون وجنده، ويؤيده أيضًا: أن التوراة كتبها الله لموسى بيده في الألواح، وهذه صحف، والله أعلم.

وخاتم هذه الكتب: "القرآن العظيم" مصدِّق لما في هذه الكتب والمهيمن عليها -الشاهد عليها-؛ فهو يبيِّن الحق الذي في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب، ويشهد لما فيها مِن الصدق ويبيِّن ما فيها من الباطل الذي كتبوه بأيديهم، ثم قالوا هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ويبيِّن ما كتموه منها وما حذفوه أو ضيعوه، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ‌قَدْ ‌جَاءَكُمْ ‌رَسُولُنَا ‌يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: 15).

ويجب الإيمان بهذه الكتب كلها إجمالًا، والإيمان بما ذكره الله من التفصيل فيها: كالتوحيد، وبعض الشرائع التي ظلت باقية، مثل: القصاص، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وكذا الرجم كما دَلَّت عليه الأحاديث الصحيحة في سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ  وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) إلى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).

وقد دَلَّت على أن الرجم كان مكتوبًا في التوراة التي تُليت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القارئ الأعور وضع يده عليها ليخفيها؛ فأمره عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن يرفع يده، فإذا آيات الرجم تلوح؛ فهذا مما يجب الإيمان به بالتفصيل وإن لم يكن بنفس الألفاظ.

كما يبيِّن القرآن ما نُسِخ منها كتعظيم السبت، وأما ما لم يصدقه القرآن ولم يكذِّبه؛ فهذا الذي يجب أن نسكت عليه؛ فلا نصدقه ولا نكذبه، كما أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونهانا أن نسألهم عن شيء؛ حتى لا يخبرونا بحق فنكذِّب به أو بباطل فنصدقه، وما بأيدي أهل الكتاب اليوم لا يشك عَالِم به وبشرع الله عز وجل أنه قد وقع في التوراة التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان.

والدليل على ذلك: ما تضمنته مِن صفات النقص لله عز وجل، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وإثبات الفواحش والزنا، بل الشرك للأنبياء، وغير ذلك من الرذائل كما سبق في المقال السابق عن داود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، وهي أيضًا قد تضمنت حقًّا مما أنزله الله على الأنبياء: كالتوحيد، والإيمان باليوم الآخر، والنبوات؛ فلا يجوز إهانة شيء منها، ولا وطأه بالأقدام كما فعله بعض السفهاء.

الفائدة الخامسة:

دَلَّ قوله تعالى: (وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أن مِن الرسل مَن لم يذكروا في القرآن ولا في السنة، فمَن ذكره أهلُ الكتاب من أسماء بعض الأنبياء عندهم الذين لم يذكروا في القرآن: كإشعياء، ودانيال، وعُزير، وإن كان عزير ذكر اسمه في القرآن، لكن لم يذكر مع الأنبياء، ولا بما يدل على نبوته، بل ذُكِر في غلو أهل الكتاب فيه وادعائهم أنه ابن الله، (وَقَالَتِ الْيَهُودُ ‌عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فلا ندري أكان نبيًّا أم لا، فيجب التوقف في هؤلاء لا نثبت ولا ننفي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَدْرِي أَتُبَّعٌ لَعِينٌ هُوَ أَمْ لَا، وَمَا أَدْرِي ‌أَعُزَيْرٌ ‌نَبِيٌّ هُوَ أَمْ لَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).  

الفائدة السادسة:

دَلَّ قوله تعالى: (‌وَكَلَّمَ ‌اللَّهُ ‌مُوسَى تَكْلِيمًا) على إثبات صفة الكلام لله سبحانه؛ فقد أكَّده الله سبحانه بقوله (تَكْلِيمًا)؛ لنفي احتمال المجاز، أو أنه كلام بعض خلقه أو ملائكته؛ مما لا يجوز لمخلوقٍ قطعًا أن يقول هذا الكلام، نحو قوله تعالى: (إِنَّنِي ‌أَنَا ‌اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)، وقوله لموسى: (إِنِّي ‌أَنَا ‌اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، ونحوها.

وأهل الإيمان يؤمنون بأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، بكلامٍ هو صفته غير مخلوق؛ لأن صفاته سبحانه الذاتية والفعلية كلها غير مخلوقة، وصفة الكلام من صفات الذات من جهة النوع، وأما آحاد الكلام؛ فهو يكون متى شاء الله؛ ولذا يعتقدون أن الله كلَّم موسى حين كلَّمه ولم يكن كلمه قبل ذلك، وإن كان موصوفًا أزلًا سبحانه بأنه يكلِّم موسى ويقول له ما ذكره في كتابه، ولكن التكليم قد وقع حين كان موسى عند جبل الطور في حياته، كما قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ).

وقد ضلتِ الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، وغيرها؛ لنفيهم صفات الرب سبحانه وتعالى، فزعموا أن كلامه مخلوق؛ بمعنى أنه كلام خَلَقَه الله في بعض خلقه، وهذا كفر بالله سبحانه؛ لأنه يجعل كلامه كقول البشر، وقد قال تعالى عن الكافر المعاند الوليد ابن المغيرة أنه قال عن القرآن: (‌إِنْ ‌هَذَا ‌إِلَّا ‌قَوْلُ ‌الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)، وقد امتُحِن في هذه المسألة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وثَبَت فيها على الحق حتى نصره الله، وصار إمامًا مِن أئمة أهل السنة في جميع العصور، رحمه الله تعالى.

وللحديث بقية إن شاء الله.