الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 17 ديسمبر 2025 - 26 جمادى الثانية 1447هـ

أوروبا من عصر النهضة إلى ما بعد الحداثة

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد عانت قارة أوروبا في القرون الوسطى الميلادية من صور متعدِّدة من الاستبداد التي كَبَّلتها ومَنَعَتها من الأخذ بأسباب التقدم والرقي؛ منها:

- الاستبداد الديني: الذي يتمثَّل في الاستبداد الطاغي للبابا ولرجال الكنيسة، وفَرْضهم لآرائهم المتحجِّرة على أتباعهم، وجَعْلها من الدين؛ إضافةً إلى ما أحدثوه فيه من تحريف لفظي ومعنوي في كتابهم المُقدَّس، وما مَنَحوه لأنفسهم من حقِّ التحليل والتحريم، ومِنْ مَنْحِ صُكوك الغفران لمن شاءوا، ومَنْعها عمن شاءوا، وفَرْض التقليد الأعمى على شَعب الكنيسة باسم الدين، وهو ما أدَّى في النهاية إلى مصادمة العلم الصحيح، ومحاربة العلماء إذا تجرَّأوا على الجَهْر بما ثَبَت عندهم من العلوم التجريبية وجاء على ما يُخالف آراء الكنيسة، أو لا يرضى عنه البابا ورجال الدين، أو لم يَأذَنوا به.

- الاستبداد السياسي: والذي يتمثَّل في سلطة الملوك والأباطرة الذين حَكَموا العباد حكمًا مُطلقًا لا مناقشة ولا رجعة فيه، وخَضَعَت لهم رقابُ الناس رَضُوا أم أبَوا، يتحكَّمون به في معاشهم وأحوالهم. ويتوارَث هذا المُلْك عائلاتٌ بعينها أو طوائفُ لا يُنازعهم فيها أحد؛ إذ تجري بزعمهم في عروقهم دماء الملوك، أو لكونهم قد نالوا البركة والتأييد من البابا والكنيسة، بما يُوجب طاعة الجميع لهم والانقياد.

- الاستبداد الاقتصادي: والذي يتمثَّل في تَمَلُّك قِلَّة من الأمراء والنبلاء والأغنياء للأراضي الزراعية الواسعة، وقَت كانت الزراعة عَصب الاقتصاد، حيث يعمل في هذه الأراضي الزراعية المملوكة لهؤلاء القِلَّة من الأفراد الغالبيةُ العظمى من أبناء الشعب كأُجَرَاء فيها أو عَبِيد، يتحكَّم فيهم سادتهم من الإقطاعيين مالكي الأرض كيف شاءوا، بينما هم لا حَوْل لهم ولا قوة.

وهكذا عاشت أكثر المجتمعات في أوروبا في ظلِّ هذه الصور المتعدِّدة من الاستبداد في جَهْل وفَقْر وتخلُّف وحرمان، لا حرية للتعلُّم ولا للعمل ولا للانتقال، ولا حرية في الرأي والفكر، ولا مكان فيه للعلماء والمُصلحين إلا من كان منهم مُنقادًا لاستبداد الكنيسة، وإلا وقَعوا تحت مِقصلة محاكمة التفتيش وآلات التعذيب والبَطْش فيها.

كان هذا واقع أوروبا في القرون الوسطى الميلادية، مُكبَّلةً بهذه القيود من صور الاستبداد المتعدِّد والتخلُّف والعبودية والحرمان، بينما كان العالم الإسلاميُّ على اتِّساعه وتَرامي أطرافه وتعدُّد قومياته واختلاف شُعوبه يعيش في نفس هذه الفترة الزمنية مرحلة مُتقدِّمة من الازدهار والمدنية والتحضُّر، ويَحمل منفردًا مشاعل العلم والمعرفة في شتَّى مجالات العلوم المختلفة، ويَرفع راية السبق فيها.

ومهما تحفَّظ البعض على بعض السلبيات أو مظاهر الضعف التي قد تكون ظهرت في فترات من تاريخ الأمة الإسلامية؛ فلا وجه للمقارنة بين أوروبا والعالم الإسلاميِّ وَقْتَها بوجه من الوجوه.

كانت هناك حرية التعلُّم وحرية العمل، وحرية الرأي والفكر، وحرية التجارة والتنقُّل والترحال، في بيئة هيَّأت الظروف المُناسبة للتعلُّم وللعمل والعطاء والابتكار، وظَهَرَ الكثير من العلماء الأفذاذ في كافة مجالات وفروع العلم وفق المنهج التجريبي الذي أسَّسه علماء المسلمين، واستحقُّوا به الريادة عن استحقاق، وخَطَوا بالبشرية خطوات واسعة في العلوم المختلفة من الرياضيات والكيمياء والفلك والجغرافيا والطب، وظَلَّ إنتاجهم العلميُّ هو المَرجِع والأساس لكل طلاب العلم في العالم أجمع بلا مُنازع ولقرون عديدة.

وقد لَمَسَ الأوروبيون ذلك من خلال الاحتكاك المباشر بهذه الحضارة الإسلامية؛ سواء في الأندلس غربًا، أو في بغداد ودمشق والقاهرة شرقًا، وتأثَّروا بها وأخذوا عنها، خاصةً خلال فترة الحروب الصليبية التي كانت أيضًا صورة من صور الاحتكاك المباشر بين أوروبا والعالم الإسلاميِّ عاد منها الأوروبيون إلى بلادهم وقد أدركوا الفارق الكبير بين أوروبا وما تُعانيه من صور الاستبداد والتخلُّف، وبين العالم الإسلاميِّ وما فيه من الحريات والازدهار والتقدم العلميِّ، فكانت عواصم العالم الإسلاميِّ في تلك الفترة مَنارات للعلم والمعرفة مفتوحة أبوابها للجميع. (للاستزادة: راجع في ذلك: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ للأستاذ أبي الحسن الندوي).

وكان على أوروبا أن تستفيق وتأخذ بأسباب التقدم والرقي، وفي مقدِّمتها التخلُّص من صور الاستبداد؛ التخلُّص من الاستبداد الدينيِّ بالحدِّ من سلطة الكنيسة وحَصْر سُلطانها داخل جدرانها، والتخلُّص من الاستبداد السياسيِّ بالتخلُّص من النُظُم الملكية المُستبدَّة من خلال إقامة أنظمة حُكم قومية ديمقراطية، أو ملكية مُقيَّدة بالدساتير والقوانين، والتخلُّص من الاستبداد الاقتصاديِّ من خلال نُظُم رأسمالية وثورة صناعية. وهكذا سلكت أوروبا طُرُق النُظُم والمناهج العلمانية القومية الرأسمالية لتبني عليها حضارتها ومَدَنيَّتَها الحديثة.

وقد قَطعت أوروبا خلال عدة قرون مراحل متعدِّدة للوصول إلى ما عليه الآن من المعتقدات والفكر والقيم، وهي مراحل متفاوتة، لكنها أيضًا متداخلة، تَحتاج إليها الأُمم للوصول إلى ما تتطلَّع إليه من الرقي والتقدم، وهي وإن كانت مراحل عامة التوجُّه، لكن سِماتها وكيفياتها تختلف بحسب الخلفية الاعتقادية والفكرية للأُمم وقِيَمها ومبادئها التي ارتضتها لنفسها.

ويمكن عَرْض هذه المراحل مُبسَّطة كالآتي:

1- مرحلة عصر النهضة:

المُراد بعصر النهضة في أوروبا الفترة الانتقالية التي مَرَّت بها أوروبا من العصور الوسطى القاتمة المُظلمة إلى عصر التنوير، والتي استغرقت نحو ثلاثة قرون بدايةً من القرن الخامس عشر حيث بدأت وانبعثت في إيطاليا، ثم امتدت خلال القرنين التاليين السادس عشر والسابع عشر إلى سائر أوروبا.

وكلمة النهضة (ري نايسنس) تعني: اليقظة بعد سُبات، أو القيام والنهوض بعد رُقود. والمعنى الأكبر لها أنها انبعاث بعد ركود وانحطاط، وإحياء وتجديد، أو ولادة من جديد.

وغالبًا فإنَّ حركة النهضة في أي أمة تَنبع من خلفيتها الثقافية والحضارية؛ لذا استمدَّت أوروبا سِمات نهضتها من ماضيها المتمثِّل في الحضارة اليونانية والرومانية الوثنية القديمة، والتي تقوم على تقديس العقل وتبجيل القوة. وقد حال بين أوروبا والأخذ بالإسلام الذي كان ماثلًا أمامها ما حَمَلته أوروبا من الضغينة والعداوة للإسلام عبر تاريخ طويل من الصراع المرير والحروب، انتشر فيها الإسلام وتمدَّد على حساب الإمبراطورية الرومانية، وسَلَبها ما كانت تمتلكه من أراضٍ في غرب آسيا وشمال إفريقيا، ثم امتدَّ الصراع إلى داخل أوروبا نفسها، ليصل إلى الأندلس وجنوب فرنسا غربًا، ودول البلقان وشرق أوروبا شرقًا، والتي أصبحت بعد الفتوحات الإسلامية لها من الممالك الإسلامية، ومراكز للإشعاع العلميِّ والحضاريِّ داخل أوروبا.

2- مرحلة عصر التنوير (أو عصر العقل):

وهي الفترة التي استغرقت مُعظم القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا، واستمرت حتى قيام الثورة الصناعية وقيام الثورة الفرنسية في عام 1789، وقد لَعِب فيها الفلاسفة الفرنسيون وفي مقدِّمتهم: (فولتير) و(روسو) و(مونتسكيو) دورًا كبيرًا في صياغة الأفكار التي سادت أوروبا بعد ذلك، ثم انتقلت إلى مختلف دول العالم.

وتميَّز عصر التنوير (إن لايت منت) في أوروبا بالثورة على تقاليد الكنيسة بسبب مُحاربتها للعلم والعلماء، ومن ثَمَّ الاهتمام باستخدام العقل كمصدر للمعرفة، والتشكيك في الأفكار التقليدية، ونَبْذ الخرافات، والتركيز على المنهج التجريبي بصفته المنهج الوحيد للعلم، والرَبْط بين التقدم الإنسانيِّ العلميِّ والتكنولوجيِّ والتقدم الأخلاقيِّ والثقافيِّ، مع بروز النزعة الفردية والدعوة إلى الحرية. وهو ما أدَّى بعد ذلك إلى ظهور الليبرالية.

3- مرحلة التحديث:

هو فترة زمنية (تاريخية) تَلت القرون الوسطى شَهِدت تحوُّلًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، تمَّ فيها تبنِّي أساليب ومفاهيم جديدة في التقدم والتكنولوجيا. وهي مرحلة كَسْر القوالب الجامدة والتقاليد التي تُعوِّق حركة التطور والتقدم، وما يقتضيه ذلك من نَبْذ الفكر الخرافيِّ والاعتماد على العقل وتبنِّي مناهج البحث العلميِّ، والاستفادة من المنجزات العلمية في مجالات العلوم الطبيعية والتطبيقية لتحقيق المزيد من التحضُّر والازدهار.

وتقوم مرحلة التحديث على معايير يمكن بها وصف مجتمع ما بأنه في حالة تحديث (مودرن نيزايشن)؛ منها: التطور في التصنيع والتعدين، وظهور التعليم العام الدُّنيوي، والمنهج العلمي في البحث والتفكير، وإعلاء قيمة العمل والتخصُّص فيه، وانتشار النزعة الفردية، وبروز اقتصاد المشروعات الخاصة، ونشأة الدول القومية، وارتباط زيادة الإنتاج بنظام الأجور والتسعير والتوزيع. وقد صاحَبَ ذلك بالطبع تغيُّرات كثيرة في المعتقدات والأفكار والقيم والثقافة.

واستخدام مصطلح حديث (مودرن) هنا في مقابلة القديم ليس معناه أنَّ لأجل وجودنا في زماننا الحالي كانت صياغة هذا المصطلح، فليس المراد مُجرد الزمن الحالي في مقابل الزمان الماضي، ولكن المراد وعْي الشعوب بأن أسلوب حياتهم مع التطور والتقدم أصبح أفضل من أسلوب وحياة أسلافهم. ولهذا يَربط البعض بين عصر النهضة والعصور الوسطى، والتي شَهدت في أوروبا حركات دينية وإنسانية وكُشوفًا جغرافية واختراع الطباعة ونحو ذلك.

4- مرحلة الحداثة (أو العصرنة):

إذا كان المُراد بالتحديث الفِعل، وهو كَسْر القوالب الجامدة والتقاليد وتبنِّي المناهج العلمية لتحقيق المنجزات العلمية، فإن المُراد بالحداثة (مودرن يزم) صِفة وفلسفة تُعبِّر عن الوَعْي الذاتي بوضع الإنسان في التاريخ. فهي مذهب فكري أدبي علماني، يقوم على تحديث وتجديد كل ما هو قديم في المجال الفكري والثقافي. فالتحديث تغيير مادي شكلي، بينما الحداثة تغيير عقلي فكري قيمي.

وقد ارتبطت الحداثة في أوروبا بعَزْل الدين عن الدولة في المجتمعات الأوروبية، وتبنِّي الأفكار والعقائد والمذاهب الفلسفية والأدبية المادية التي سبقت ظهور الحداثة، فكانت بمثابة إفرازات لِفِكر مادي نشأ بعد انتشار العلمانية والرأسمالية وغَلَبة النزعات التحرُّرية والقومية.

وقد انتقلت من الفلسفة إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع، لتُصبح حالة حضارية تاريخية أثمرت عن تغييرات عميقة في المجتمعات الأوروبية في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، لتَشمل تداخل وتفاعُل مجالات البحث والمعرفة والتطبيق التكنولوجيِّ مع مؤسسات الحُكم السياسية والمدنية والتشريعية والمعاملات التجارية، في إطار بناء الدولة القومية وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحة الحريات والمسؤولية الفردية. فالحداثة هي توافُق جديد مع تجربة وقِيَم الحياة الصناعية الحديثة، وما نَتَج عنها من مشكلات متعدِّدة في كافة المجالات، بدايةً من مشكلات التلوث إلى استنزاف الموارد الطبيعية.

وفي مجال الأدب: بدأ مذهب الحداثة في أوروبا في مُنتصَف القرن التاسع عشر من باريس بفرنسا على يد كثير من الأدباء السِّيرِيَالِيِّين والرمزيين، والماركسيين، والفوضويين والعبثيين، وامتاز بالغموض حتى في عناوين القصائد والكتب من خلال الرغبة في الانطلاق بلا ضوابط وبلا معايير.

5- مرحلة ما بعد الحداثة:

ما بعد الحداثة تيار فكري ثقافي فلسفي جديد نشأ في مُنتصَف القرن العشرين، وهي الفترة التي أعقبت هيمنة الحداثة على النواحي النظرية وعلى الممارسة الثقافية في العقود الأولى من القرن العشرين. وتُعَدُّ ما بعد الحداثة أسلوبًا وطريقة في التفكير بمثابة رد فعل لقصور تراه في الحداثة، فهي تنظر إلى الحداثة على أنها مُفرِطة في العقلانية والتنظيم، وتَتوجَّس من ذلك؛ لذا يرى البعض أنها لا تعني نهاية الحداثة، بل هي استمرار وامتداد لها بمناهج ووسائل أخرى لتصحيح بعض سلبياتها.

وما بعد الحداثة (بوست مودرن يزم) تُشكِّك في وجود حقائق كونية مُطلقة، وتُشكِّك في المفاهيم المُطلقة المتعلِّقة بالتقدم؛ لذا فهي تتبنَّى النسبية والتعددية، وتتبنَّى وجهات نظر متعدِّدة ومتنافسة بدلًا من وجود حقيقة واحدة عالِمة، وهي لا تُخصِّص نمطًا واحدًا من الفن والثقافة بل ترتبط بالتعددية. وهي تَرفُض الحقائق الكونية، وتَعمل على تفكيك السرديات الكُبرى بانتقاد الروايات الكُلِّية التي تُحاوِل تفسير العالم بشكل شامل.

ويرى مُنتقدو ما بعد الحداثة أنها تَفتقد الترابُط المَنطقيَّ، وتدفع إلى النسبوية المُطلقة، وتؤدِّي إلى الغموض وإضعاف القُدرة على إصدار الأحكام، وعليه فإن مجتمع ما بعد الحداثة أفراده مُتشكِّكون.

فالحداثة: ثبات وشمول، وعمل مُغلق مُكتمل له معنى ومدلول، بينما ما بعد الحداثة بمثابة عمل مفتوح غير مُكتمل.

فائدة مهمة:

قال الدكتور أحمد زكريا الشِّلق في كتابه حول أثر حملة نابليون بونابرت الفرنسية على مصر (الحداثة والإمبريالية.. الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر): (وإذا كانت المصطلحات والمفاهيم السابقة تخصُّ التاريخ الأوروبي أو الغربي على وجه العموم فقد أَثَّرَتْ في تاريخ مصر بشكل أو بآخر من خلال غزو الغرب واستعماره لها، وليس معنى هذا أن مصر مَرَّت بنفس المراحل التي مَرَّت بها أوروبا في تطوُّرها الخاص، فبينما انتهى عصر النهضة الأوروبي في أواخر القرن السابع عشر ليبدأ عصر التنوير فإنَّ الرأي السائد أن مصر بدأت نهضتها مع بداية القرن التاسع عشر، وبينما انتهى عصر التنوير الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر لم تبدأ مصر خُطوتها الأولى نحو التنوير إلا مع بداية القرن العشرين تقريبًا.

لقد كانت مصر تعيش الحالة الحضارية التي كانت عليها الدولة العثمانية باعتبارها إحدى ولاياتها، حيث كانت تَحيا في ظل نظام عثماني مَملوكي تقليدي في الوقت الذي كانت أوروبا فيه قد خَرَجَتْ من سُبات العصور الوسطى، وانطلقت بآفاق النهضة إلى عصر التنوير، الذي بَلَغَ ذروته في بداية عصر الثورة الفرنسية) (انظر كتاب: الحداثة والإمبريالية.. الغزو الفرنسي وإشكالية نهضة مصر، الدكتور أحمد زكريا الشِّلق - إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة).

وأضاف الدكتور أحمد زكريا: (وإذا كانت مصر لم تَمُرَّ تاريخيًا بالضرورة بنفس المراحل التي مَرَّت بها أوروبا في تطوُّرها خلال العصر الحديث باعتبارها شَهِدت تجربة اختلطت أو امتَزَجت فيها مرحلة أو أكثر، فلم تَظهَر فيها الحدود التي مَيَّزت المراحل الأوروبية، فإنَّ ذلك ربما يُفسِّر استخدام كُتَّابنا لتلك المفاهيم أو المصطلحات التي عَبَّرت عن هذه المراحل بقَدْر من الخَلْط والترادف. وهو ما يَبدو واضحًا في استخدام مصطلحي النهضة والتحديث أو النهضة والحداثة، وقد تُستخدَم كلمة التحديث بمعنى الحداثة، أو الدخول في العصر الحديث، باعتبارها جميعًا من جِذْر لُغوي واحد، وإن كان التحديث يَنصرف إلى عملية صَيْرورة قائمة تَأخذ بمعايير وخصائص الحداثة. وعمومًا فإنَّ الحداثة صِفة لعصر أو مرحلة، والأخذ بالتحديث يُفضي إليها. ويَبقى أن نُشير إلى أنَّ مفهوم التحديث لدى المُفكرين الغربيين ومن يُشايعهم من غير الغربيين، هذا المفهوم يُشير إلى اقتباس غير الغربيين لِنتاج الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، من علم وصناعة وتنظيم وفكر وثقافة وأخلاق ونمط حياة. وفي الجانب المُقابِل يرى المُفكرون القوميون في غير البلاد الأوروبية أنَّ المفهوم السابق للتحديث إنما يعني التغريب (ويستر نايزيشن) أو الاصطباغ بالصَبغة الغربية) (ينظر: المصدر السابق).

(وعلى ذلك لا نرى بأْسًا من استخدام مصطلحي النهضة والحداثة بمعنى النهوض والتقدم نتيجةً للأخذ بأُسُس ومقومات الحضارة الحديثة، والسعي نحو الرقي الإنسانيِّ في شتَّى صُوره ومجالاته، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية هذا التقدم قياسًا إلى المراحل التاريخية السابقة، وقياسًا إلى التطور الإنسانيِّ العام الذي بَلَغَته البشرية) (ينظر: المصدر السابق).