كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالرئيس الفَرنسي -بفتح الفاء لا كسرها، نسبة إلى فرنسا- من مواليد 21 ديسمبر 1977 م، واسمه بالكامل: جان ميشال فريد فردريك ماكرون، درس الفلسفة في جامعة (نانتير لاديفونس) غرب باريس، وحصل على ماجستير في الشئون العامة من معهد الدراسات السياسية بباريس، وتخرج من المدرسة الوطنية للإدارة عام 2004 م.
وتولى رئاسة فرنسا في 14 مايو2017م، وجاء فوز "ماكرون" برئاسة فرنسا ودخوله قصر الإليزيه بمثابة صدمة للأحزاب الفرنسية التقليدية التي كانت تتصارع فيما بينها على الحكم.
احتجاجات الفرنسيين على ماكرون:
لم يهنأ ماكرون بتوليه رئاسة فرنسا ودخوله قصر الإليزيه كثيرًا؛ إذ سرعان ما عانت فرنسا في شهر مايو عام 2018 م من اضطرابات سياسية واحتجاجات مستمرة، تمثَّلت في مظاهرات -لم ترتبط بحزب أو نقابة، بل ولم تُعرف لها قيادة معروفة- خرجت تندد بارتفاع أسعار الوقود، وارتفاع تكاليف المعيشة، وهي الحركة التي أطلق عليها: (حركة السترات الصفراء)، لأن المشاركين فيها اختاروا السترة الصفراء كرمز لحركتهم، وقد اقترنت هذه المظاهرات بمصادمات مع الشرطة الفرنسية، وشابها أعمال عنف طالت المنشآت العامة والخاصة، وازدادت المظاهرات انتظامًا وتوسعت بحلول شهر نوفمبر 2018م مطالبة برفع الحد الأدنى للأجور وبإصلاحات ضرائبية؛ خاصة الضريبة الجديدة التي سنتها الحكومة؛ لأنها تستنزف الطبقة العاملة المتوسطة وتنحاز إلى الطبقة الغنية.
وقد ألحقت هذه الاحتجاجات خسائر ليست بالقليلة بالاقتصاد الفرنسي، كما تسببت في تراجع حركة وإيرادات السياحة، وهي أحد المصادر الأساسية للدخل في فرنسا، وقد تمادت هذه الاحتجاجات لتطالب باستقالة ماكرون وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
وقد ترتب على ذلك: هزيمة حزب ماكرون في نتائج انتخابات المجلس الأوروبي في فرنسا، وفوز قوى اليمين المتطرف في هذه الانتخابات الأوروبية؛ مما جعل زعيمة حزب التجمع المتطرف (ماريان لوبان) تدعو بعد هذا الفوز إلى حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ثم أعلنت مؤخرًا أنها لن تترك الساحة خالية لماكرون -والذي كان قد أعلن نيته في الترشح لفترة رئاسية ثانية لفرنسا في عام 2022 م-، وأنها سوف تخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقد شهدت فرنسا في هذه الفترة حريق (كاتدرائية نوتردام) الشهيرة -أحد المعالم السياحية البارزة في باريس-، وهو الحريق الذي ألتهم أجزاءً مهمة، أبرزها: سقفها المصنوع من الخشب، ونوافذها المميزة، والعديد من الأعمال الفنية بها، وأدَّى ذلك إلى انهيار البرج الشهير الخاص بالكاتدرائية.
وما إن فترت الاحتجاجات الأسبوعية الدورية لحركة السترات الصفر بعد القرارات التي اتخذها ماكرون لزيادة الأجور وإرجاء زيادة سعر الوقود حتى ظهرت احتجاجات الطلاب والتلاميذ ضد خطط ماكرون الإصلاحية للتعليم التي اعتبروها تتسم بعدم المساواة بين الفرنسيين بالنسبة لحق الحصول على التعليم العالي، وتميِّز بين سكان الحضر وسكان الريف.
وتلا ذلك انطلاق حركة احتجاجية جديدة؛ بسبب مشروع التقاعد الذي تقدَّمت به الحكومة، والذي يقضي بإنهاء كل أنظمة التقاعد الخاصة البالغ عددها 42 نظامًا، ووضع نظام شامل يطبق عام 2022م يمنح معاشًا أدنى لجميع المتقاعدين قدره ألف يورو، وهو اعتبرته الحكومة نظامًا موحدًا يهدف إلى تحقيق العدالة، غير أن ذلك واجَه رفضًا من المستفيدين من أنظمة التقاعد الخاصة العديدة.
ماكرون وأزمة كورونا:
جاء ظهور فيروس كورونا في فرنسا في عام 2020م وهي تشهد اضطرابا سياسيا، ولم يكن رئيسها ماكرون يتمتع بالسكينة والهدوء، بل كان يخوض حربًا لم تتوقف بعد للدفاع عن منصبه كرئيس للجمهورية لم يكن معها مستعدًا تمامًا لمواجهة هذا الوباء.
ولهذا لم تبدأ الإدارة الفرنسية التحرك لاتخاذ إجراءات احترازية لمواجهة فيروس كورونا المستجد؛ إلا بعد تسجيل نحو 5423 حالة إصابة وتسجيل 27 حالة وفاة، بل أن الحكومة أجرت الجولة الأولى من الانتخابات المحلية لاختيار رؤساء البلديات والمجالس البلدية في منتصف شهر مارس 2020م غير مكترثة بالأصوات المطالبة بتأجيلها بسبب غزو فيروس كورونا للبلاد، مكتفية باتخاذ الإجراءات الوقائية ضد الفيروس، وهي الانتخابات التي شهدت تراجعًا كبيرًا في نسبة المشاركة الانتخابية بالمقارنة بانتخابات عام 2014 م، خوفًا من الإصابة بالفيروس، وقد وجد فيها معارضو ماكرون -خاصة من اليمين المتطرف- الفرصة للنيل منه؛ مما أدَّى إلى تأجيل الجولة الثانية من الانتخابات، والتي كانت ستجرى بعد الجولة الأولى بأسبوع.
خطاب ماكرون في 16 مارس:
جاء خطاب ماكرون في 16 مارس2020 م ليفصل بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: التي امتدت حتى منتصف مارس لم ترَ فيها الإدارة الفرنسية ضرورة اتخاذ أي إجراءات احترازية صحية أو اجتماعية أو اقتصادية، واكتفى فيها ماكرون بطمأنة الفرنسيين من خطر الفيروس القادم رغم أنه غزا أوروبا -خاصة بعض الدول المجاورة لفرنسا- بقوة، بل استضاف ماكرون 150 من عمالقة وكبار صناع الموضة على حفل عشاء حضره ثلاثة من وزرائه في نهاية شهر فبراير قبل إطلاق أسبوع الموضة العالمي، بغرض تبديد المخاوف من احتمال إفساد موسم الخريف والشتاء للموضة؛ خاصة وأن باريس هي عاصمة الموضة، ثم كان الإصرار على إجراء الانتخابات المحلية في شهر مارس.
المرحلة الثانية: والتي بدأت في اليوم التالي لإجراء المرحلة الأولى من الانتخابات المحلية التي لم تشهد الإقبال المتوقع من المواطنين، حيث أعلن ماكرون في خطابه في هذا اليوم أن البلاد تخوض حربًا ضد فيروس كورونا، وأعلن مجموعة من الإجراءات تضمنت فرض الحجر الصحي والعزل الاجتماعي والإغلاق الاقتصادي، حتى لا تقع فرنسا في أزمة صحية عنيفة كما عانت منها بشدة بعض الدول الأوروبية خاصة إيطاليا وإسبانيا، كما أعلن حزمة إجراءات احترازية لحماية الاقتصاد الفرنسي من التداعيات الاقتصادية للوباء. وقد استثمرت المعارضة في فرنسا اجتياح الفيروس المستجد للبلاد لمهاجمة إدارة ماكرون للأزمة من جديد؛ خاصة في ظل إعجاب قطاعات ليست قليلة من الفرنسيين بتجربة (ميركل) في ألمانيا في مواجهة أزمة كورونا، حيث أجريت نسبة كبيرة من الاختبارات والتحليلات، وتم زيادة أسرة العناية المركزة، ولم تتجاوز نسبة الوفيات في ألمانيا 2و1 % بينما بلغت نسبة الوفيات في فرنسا 7%، بل استقبلت مستشفيات ألمانيا عشرات من المصابين بالفيروس من الفرنسيين لعلاجهم.
جاء تحرك ماكرون كمحاولة للمحافظة على مكانته السياسية داخل بلده، ومكانة بلاده داخل أوروبا، وقد شارك ماكرون الرئيس الأمريكي ترامب في اتهام الصين بإخفاء حقيقة الفيروس المستجد وإخفاء الأعداد الحقيقية للإصابات والوفيات لديها نتيجة هذا الوباء.
في الأسبوع الثاني من مايو -أي: بعد قرابة الشهرين- خففت إدارة ماكرون قيود العزل الاجتماعي المفروضة، حيث مالت العديد من الدول الأوروبية إلى التعايش مع الفيروس المستجد منذ منتصف شهر إبريل، خاصة مع ضغوط رجال الأعمال الذين اعتبروا الغلق الاقتصادي كارثة، وحتى لا تتفاقم أزمة البلاد الاقتصادية، ولم يستمع ماكرون لتحذيرات عدد من المتخصصين في أمور الصحة، ولم يستمع أيضًا للنقابات العمالية المعارضة لإنهاء الحجر الصحي والعزل الاجتماعي وفتح الاقتصاد، بل أعلن ماكرون انتصار فرنسا على الفيروس، وقد قامت الإدارة الفرنسية بإجراء الجولة الثانية المؤجلة من الانتخابات المحلية، وهي الانتخابات التي شارك فيها حزب ماكرون للمرة الأولى بقوائم خاصة، والتي شهدت عودة الحزب اليميني الكلاسيكي (حزب الجمهوريين) بعد الانتكاسات المتلاحقة التي تعرض لها، بينما لقى حزب ماكرون فيها هزيمة واضحة، سارع بعدها ماكرون إلى تشكيل حكومة فرنسية جديدة (انظر في ذلك: كتاب "رؤساء وكورونا" تأليف عبد القادر شهيب - كتاب الجمهورية - أغسطس 2020 م - فصل: الرئيس الفرنسي وحرب الدفاع عن القصر، ص 127- 144).
ماكرون يركب الموجة:
عانى ماكرون -كما بيَّنَّا- في قصر الإليزيه خلال عام 2019م من اضطرابات سياسية عنيفة؛ بسبب شدة تظاهرات واحتجاجات (حركة السترة الصفراء)، والتي تسببت في تراجع حزب ماكرون في انتخابات المجلس الأوروبي الفرنسي مقابل صعود قوى اليمين المتطرف.
وعانى ماكرون في عام 2020م من غزو فيروس كورونا المستجد لفرنسا، والذي تأخر ماكرون نسبيًّا في اتخاذ إجراءات مواجهته، وهو يرى تفشي الوباء في إيطاليا وإسبانيا، بينما نجحت ألمانيا في التعامل الجاد مع الوباء، وقد كان ذلك من أسباب تراجع حزب ماكرون في الانتخابات المحلية الفرنسية في هذا العام؛ جاء هذا التراجع في وقت كان قد أعلن فيه ماكرون مبكرًا نيته في خوض انتخابات الرئاسة الفرنسية لفترة ثانية.
ثم في سبتمبر2020م أعادت صحيفة فرنسية نشر رسومًا كاريكاتورية مسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كانت قد نشرتها من قبل من عدة سنوات؛ مما استفز المسلمين في فرنسا وخارجها وأثار غضبهم، وأعقب ذلك عملية قتل في أحد الشوارع قام بها لاجئ شيشاني الأصل روسي الجنسية؛ قتل فيها مدرسًا فرنسيًّا؛ لكونه أظهر هذه الرسوم المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم- مما أثار حفيظة عدة تلاميذ وأهاليهم.
وفوجئ الجميع بخروج ماكرون -وهو يمثِّل قمة الإدارة السياسية في فرنسا- بتصريح يعلن فيها حماية نشر مثل هذه الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ويهاجم فيها الإسلام والمسلمين بدعوى حماية قيم فرنسا العلمانية، متهمًا الإسلام بالإرهاب، وهو ما فسره الكثيرون على أنه محاولة من ماكرون لتحسن صورته أمام الفرنسيين، خاصة أمام قوى اليمين المتطرف لاستعادة بعض مما فقده هو وفقده حزبه من شعبية ستؤثر حتمًا على ترشحه للرئاسة لفترة ثانية، متجاهلًا بذلك مشاعر المسلمين في فرنسا، وعددهم يقارب الستة مليون مسلم، ومتجاهلًا مشاعر المسلمين في العالم كله، والذين يتعدى عددهم المليار ونصف مليار مسلم؛ مما أثار المسلمين في كل مكان ضد فرنسا، وسرعان ما ظهرت الدعوات بمقاطعة المسلمين في العالم للمنتجات الفرنسية، وهو ما استجاب إليه الكثير من المسلمين في كل مكان، وهو ما يؤثِّر قطعًا على الاقتصاد الفرنسي؛ مما جعل ماكرون يتراجع ويعتذر بصورة مغلَّفة زاعمًا أن تصريحاته أسيء فهمها.
القصة من بدايتها:
لم تكن الحروب الصليبية هي التاريخ الأسود الوحيد للغرب في بلاد المسلمين؛ إذ أعقبها الاستعمار العسكري الأوروبي للدول الإسلامية الذي بقي فيها لسنواتٍ طويلةٍ عانت فيه الشعوب الإسلامية المحتلة من كل ألوان الظلم والقمع والاستبداد، لم يكتفِ الأوروبيون باحتلال الأرض واستعباد الشعوب ونهب الثروات، بل حاولوا بكل السبل محو هوية هذه الشعوب، بفرض لغة المحتل وتضييع اللغة العربية، وتشويه الثقافة، والتشكيك في العقائد والثوابت.
وقد حافظ الإسلام على هوية الأمة أمام هذه المحاولات على شراستها، وقد أورث انتشار الإسلام في أوروبا -خاصة فرنسا- كراهية باطنية عمياء في باطن الأوروبيين، وبث فيهم خوفًا من دين الإسلام ومن الملتزمين به، بما عرف باسم: (الإسلامفوبيا)؛ خاصة من قوى اليمين المتطرف هناك، والتي تعادي الهجرة لأوروبا عامة، وهجرة المسلمين إليها خاصة، وهو الخوف الذي يتضاعف مع ازدياد انتشار الإسلام في أوروبا.
ومعلوم أن لفرنسا رصيد خاص من هذه الكراهية، فهي التي أسر ملكها لويس الرابع عشر خلال الحروب الصليبية بعد هزيمة قاسية في معركة المنصورة، حيث حبس ملكها في دار القاضي لقمان، ولم يطلق سراحه إلا بعد تقديم فدية كبيرة.
وهي التي قاد قائدها نابليون بونابرت حملته على مصر حيث أعمل بمدافعه القتل والتدمير والحرق ومارس النهب ومصادرة الأموال في مواجهة المقاومة المصرية الشعبية بقيادة علماء وشيوخ الأزهر، والتي كانت من أسباب فشل الحملة، وهي التي احتلت الجزائر نحو 130 عامًا سعت فيها بكل قوة أن تجعلها جزءًا من فرنسا لغة وثقافة وفكرًا، وقتلت عدة ملايين من الشعب الجزائري، ثم قتلت أكثر من مليون جزائري خلال فترة المقاومة المسلحة من عام 1954 م حتى الاستقلال في عام 1962م، وهي اليوم تشهد انتشار الإسلام فيها إذ يقطنها نحو 6 ملايين مسلم أغلبهم ممَن ولدوا في فرنسا، ويحملون جنسيتها، ويساهمون بجهد وفير فيها.
الهجوم على صحيفة (شارلي إبدو):
كانت الشرارة الأولى بقرار صحيفة شارلي إبدو الفرنسية، وهي صحيفة ساخرة، في عام 2015م بإعادة نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم نشرتها مجلة دنماركية عام 2005 م، مما أثار حفيظة وغضب الكثير من المسلمين في العالم الإسلامي، وتصاعدت وتيرة الأحداث، وترتب عليه قيام أخوين (شريف كواشي وسعيد كواشي) منتميين لتنظيم القاعدة في اليمن باقتحام مقر الجريدة في صباح 7 يناير 2015 م أثناء اجتماع مجلس تحريرها، وقاما بقتل 12 شخصًا وإصابة11 آخرين.
وتزامن ذلك بتنسيق مسبق مع تنفيذ شريك ثالث (أميدي كوليبالي) ينتمي لتنظيم داعش عملية قتل شرطية في حي (مونروج) بباريس، ثم الهجوم على متجر يهودي في حي فانسان في الدائرة العشرين الباريسية وقتل أربعة، وانتهت العمليتان بمقتل الثلاثة المنفذين لهما بعد مطاردتهم.
وفي 14 يناير 2015 م ظهر فيديو مصور أعلن فيه متحدث باسم: (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب) مسئولية التنظيم عن الهجوم على مبنى الجريدة، وقد قدَّمت فرنسا 14 شخصًا للمحاكمة، من بينهم حياة بومدين زوجة كوليبالي -منفذ العملية الثانية- والتي تحاكم غيابيًّا؛ نظرًا لمغادرتها لفرنسا، بتهمة التورط في الهجمات بنسب متفاوتة من خلال تقديم المساعدة وتوفير السلاح والسيارات للقتلة الثلاثة.
ومع الإعلان عن بدء المحاكمة للمتورطين في 2 سبتمبر 2020 م الماضي اتخذت صحيفة شارلي إبدو قرارًا جديدًا بإعادة نشر نفس الرسوم الكاريكاتورية المسيئة "والتي هي سبب الأزمة"؛ مما ترتب عليه تجدد غضب قطاعات كبيرة من المسلمين في العالم العربي والإسلامي، وتصاعدت وتيرة الأحداث لتأخذ أبعادًا دينية وشعبية وسياسية.
ومع ذلك خرج ماكرون ليصرِّح -مدافعًا عن الصحيفة الفرنسية!- بأن بلاده تتمتع بحرية التعبير والنشر، وترتب على ذلك قيام شاب باكستاني عمره 18 عامًا بهجوم على المقر السابق للجريدة الفرنسية وطعن شخصين أصيبا بجروح بالغة، وهو الحادث الذي أثار غضب الفرنسيين، وصرَّح بعده ماكرون مِن جديدٍ بأن فرنسا ستتصدى لما سماه: بـ"الانفصالية والانعزالية الإسلامية!"، وزعم أن الدِّين الإسلامي يمر بأزمة عميقة في جميع أنحاء العالم! وهي التصريحات التي أثارت جدلًا واسعًا.
وفي 16 أكتوبر 2020م قام شاب لاجئ شيشاني الأصل روسي الجنسية -عمره 18 عاما أيضًا- يُدعَى (عبد الله أبو زيد فيتش أنذروف) بقتل مدرس يدرس التاريخ والجغرافيا في إحدى المدارس التكميلية، وذلك في أحد شوارع مدينة (كونفلان سانت هونورين) الفرنسية؛ لأنه عَرَض الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ مما أثار حفيظة وغضب تلاميذ من المسلمين وأهاليهم، وهو الحادث الذي أعقبه طعن فتاتين محجبتين من أصل جزائري قرب برج إيفل انتقامًا لهذا المدرس.
وفي 29 أكتوبر 2020 م أعلنت الشرطة الفرنسية أن مهاجمًا قُتل بسكين ثلاثة أشخاص من بينهم امرأة في كنيسة نوتردام بمدينة نيس الفرنسية، وقد اعتقلت الشرطة المهاجم أثر إصابته برصاص الشرطة.
ولا شك أن هذه الأحداث زادها سخونة وتصعيدًا تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون المثيرة للجدل وغير المسئولة، فقد زادت من حالة الاحتقان والغضب لدى المسلمين شرقًا وغربًا، وتلتها تنديدات رسمية بعبارات قوية من شيخ الأزهر في مصر، وكذلك من العديد من المؤسسات العربية والإسلامية التي رأت في تصريحات ماكرون تبريرًا وتغاضيًا عن هذه الإساءة المتعمدة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-، إساءة بالغة للإسلام والمسلمين من خلال خطاب يحضُّ على كراهية واضحة ضد الإسلام والمسلمين.
ماكرون يرتدي ثياب المتطرفين:
جاء في مقال في جريدة الفجر بعنوان: (باحثون ومحللون غربيون: ماكرون وقع في فخ التطرف): (لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل وقع ماكرون في فخ التطرف وهو يواجِه الخطاب الإسلامي المتطرف؟ الكثير من الباحثين والمحللين الغربيين يؤكدون أنه -أي: ماكرون- فقد بوصلة التعامل الصحيح؛ خاصة أنه في طريقه لوضع صيغة جديدة لتعامل الدولة الفرنسية مع الدين الإسلامي من المنتظر ظهورها في ديسمبر المقبل.
غرد عالم الاجتماع الأمريكي (كريستال فليمنج) الخبير في الجماعات المتعصبة من أصحاب البشرة البيضاء: (إنه لأمر محزن أن نرى المسئولين الفرنسيين يستجيبون للتطرف العنيف بالتطرف العنيف). وقال (إرييه عليمي) المحامي في الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان: (صباحًا ومساءً نسمع دعوات لاتخاذ إجراءات جديدة ضد المسلمين؛ ما نحتاجه من ماكرون هو شيء أكثر حكمة، شيء أكثر توازنًا).
وحسب الصحفي الفرنسي (جون ليتشفيلد) على موقع (بوليتكو) فإن العليمي على حق: (يحتاج ماكرون للعودة إلى النهج المعقول والمدروس لعلاقة فرنسا مع مواطنيها المسلمين الخمسة ملايين) (جريدة الفجر - عدد الخميس 29 أكتوبر 2020م، ص 7).
(لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تدفق الخطابات غير المدروسة من بعض أعضاء الحكومة الفرنسية؛ مثلًا وزير الداخلية جيرالد دارمانين على وجه الخصوص، والذي تبنى مصطلحات وأنماط تفكير اليمين المتطرف، وتحدث عن كون جمهورية فرنسا تخوض حربًا أهلية للدفاع عن العلمانية والوحدة ضد التعاليم الانفصالية للإسلام المتطرف. وبحسب مصادر مطلعة في الإليزيه؛ فقد طلب ماكرون من دارمانين ووزراء آخرين تهدئة لغتهم) (المصدر السابق).
(إن موقف ماكرون الأخير من الرسوم المسيئة أدَّى لاصطفاف المسلمين المعتدلين مع المتطرفين ضد ماكرون، في وقت يحاول فيه الأخير تحرير المؤسسات الإسلامية في فرنسا من قبضة أصحاب الفكر المتطرف). (من جانبه يرى (إتش هيلير زميل)، أول مشارك في المعهد الملكي، ومؤلف كتاب (مسلمو أوروبا: الأوروبيون الآخرون)، أن ماكرون فشل في إدراك أن المبدأ الأساسي للفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا العلمانية وحياد الدولة تجاه الدين المنظم، يمنعه في الواقع من الانخراط في أساس الخطاب الديني الخاص للمجتمع) (المصدر السابق).
وفي إنجلترا: اتهمت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية في مقال لها على موقعها الالكتروني -نشرته في 2 نوفمبر 2020م ثم سحبته بعد ساعات- ماكرون بتشويه سمعة المسلمين الفرنسيين لأهداف انتخابية، والأسوأ من ذلك: أنه أبقى على مناخ من الخوف والتشكيك حيالهم. وهو المقال الذي أعلن ماكرون استياءه منه (انظر جريدة الأهرام - عدد الجمهورية 6 نوفمبر 2020م، ص 9).
بينما كتب فاروق جويدة في جريدة الأهرام القاهرية يقول: (ما أشبه الليلة بالبارحة بين ماكرون وسلمان رشدي، الفرق بينهما أن سلمان رشدي كاتب روائي، وأن ماكرون رئيس دولة كبرى لها تاريخ ثقافي وحضاري طويل... حين أصدر سلمان رشدي روايته: (آيات شيطانية) هاجم فيها القرآن الكريم، وسخر من الرسول -عليه الصلاة والسلام-... وقد تشابهت معركة الرئيس الفرنسي ماكرون مع صاحب آيات شيطانية في الضجة التي اجتاحت العالم الإسلامي، وأدَّت إلى مقاطعة السلع والمنتجات الفرنسية في الدول الإسلامية).
(هناك تشابه كبير بين موقف ماكرون وموقف سلمان رشدي... فكلاهما يكره الإسلام، رغم أن سلمان رشدي مسلم هندي وماكرون مسيحي فرنسي... إلا أن القضية تبدو واحدة، وهي العداء للإسلام، لقد ثارت ضجة كبيرة حول سلمان رشدي وآياته الشيطانية وماكرون ورسومه المجنونة).
ويضيف: (إن الكراهية للإسلام لن تتوقف؛ خاصة أن تيارات الإرهاب التي ظهرت في بعض القوى الإسلامية قد أساءت للإسلام كثيرًا... وحملت أفكارًا منحرفة أعطت الفرصة للحاقدين والكارهين لتشويه صورته والطعن في ثوابته.
إن ماكرون يتحدث عن الإرهاب وكأنه حالة إسلامية رغم أن الإرهاب جاء من الغرب بحروبه وجماعاته... لأن الغرب هو الذي قتل 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، و30 مليونًا في الحرب العالمية الأولى، وفرنسا نفسها هي التي قتلت مليونًا ونصف مليون من الشعب الجزائري!).
(إن الحديث عن الإرهاب وأسبابه ودوافعه حديث يطول؛ لأن الجماعات الإرهابية التي رفعت راية الإسلام كانت نتيجة ما تعرضت له الشعوب من القهر والاستبداد) (المصدر السابق، ص 13 بتصرفٍ يسيرٍ).
وهكذا تكون عاقبة المكر وبال وبوار على أهله، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام:123)، وقال -تعالى-: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر:43)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (فاطر: 10).